تعد قضية تكريم الإنسان مركزية في الفكر الإسلامي. وهذا مستند إلى ما أعطاه الله للإنسان من مواهب وقدرات ومسؤولية جعلته مكرما عنده بحيث فاقت منزلته منازل كل ما خلق من كائنات حتى ملائكته المقربين.
فلقد كرمه بهذه الإرادة التي لم يمنحها مخلوقا قبله "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" [الأحزاب: 72]. رفضت هذه الكائنات أن تحمل أمانة المسؤولية وحلمها الإنسان بالقدرات التي ركبها الله فيه وأعده لها.
وهذه المسؤولية هي التي جعلته يتبوأ مكانة الخلافة لله في الأرض، وينوب عنه في أداء الوظائف التي أناطها به إزاء نفسه وإزاء بني البشر من جنسه، وإزاء الطبيعة وإعمارها، وإنها لوظيفة صعبة قد يحسن أداءها، وقد يخيب بما ركب من طاقات مهيئة للإصابة والإخفاق. وبهذا يكون للإرادة معنى ويكون على أساسها الجزاء.
ويترتب على مبدأ الخلافة هذه مفاهيم أساسية من الأمانة والإستقامة والعدل في المعاملات وإقامة النظم الإجتماعية والإقتصادية وشؤون الحياة كافة.
وهذه نتيجة خطيرة من النتائج تحمل المسؤولية والإستخلاف. فليس بعد هذه التكريم "ولقد كرمنا بني آدم" [الإسراء: 70]. إلا الطاعة والإستسلام والشكر والتنفيذ وفق التوجيه الرباني الحكيم الذي يريد لهذا الكون الإنسجام بين جماده وإنسانه، وبين إنسانه وإنسانه.
ولا معنى لهذا التكريم إذا عصا الإنسان، أو شذ، أوعق وزاغ من التوجيه. وفي تاريخ الإنسان محطات كثيرة استهدى فيها مرات بتوجيه خالقه، وعتا وضل واستكبر مرات.. وإنه لأمر غريب أن يعتو أو يستكبر العبد المستأجر، والوكيل المستخلف!! ولكن هكذا كان.. وهو ممكن مستكن في طابع الإرادة والمسؤولية التي تقبل هذه الإنشطار في الموقف والتلون في الأداء، وإلا كانت جبرا لا معنى للجزاء معه.
إن الإنسان- بناء على هذا التكريم والإستخلاف- سيد في الكون، ولكنه سيد خاضع لمن أعطاه هذه السيادة، ولكنه ليس سيد الكون كما تلحد إليه النظريات المادية (العلمانية التي ألهت هذا الإنسان، وألغت مبدأ الربانية والتوحيد والسيادة الإلهية يجعلت الإنسان يعاني الوحدة والإنشطار والضعف، وإن بدا قويا في سيطرته على ظاهر الطبيعة، وما هو بقوي على الله، ولكنه قوي على الشعوب الضعيفة التي استغلها وهضم حقوقها واستعبدها.
إن الإنسان الأوروبي اليوم محسن لنفسه (أناني)، ولكنه ظالم، بمعنى الظلم- الشرك، وظالم لغيره في المعنى الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، لأنه أخرج نفسه من دائرة التكريم الإلهي، وتصرف كما لو لم يكن إنسانا البتة.
وهذا يذكرنا بالأيام التي فاقت فيها خيرات المسلمين دنيا وعلما وسلوكا على العالم، وذلك من منطلق الإنسان المكرم الذي استهدى بتكريم الله فمنحه رشده وقوته وعلمه كيف يسعى ويسود. وهذا يقودنا إلى الحديث عن مبدأ (الأخلاقية).
الأخلاقية
وهذا مبدأ هام ينبثق من مبدأ التكريم الإلهي للإنسان وجعله محور هذا الكون ومركزه. فو خاضع للتوجيه الإلهي، وما الرسالات التي بعث الله بها أنبياءه إلا دساتير أخلاق ونظم في الإجتماع والحياة قائمة على مبادئ الأخلاق الربانية. فلله- تعالى- أخلاق مثلى "ولله المثل الأعلى" [النحل: 60].
لا ينبغي أن تكون أخلاق عباده محادة لها، أو في منأى عنها، بل مستهدية بها منتهلة من معينها.
لقد جعل الله- سبحانه- أخلاق المسلم قائمة على مبدأ (الأمر بالمعروف) وما المعروف إلا وجه من وجوه الفطرة التي فطر الله الناس عليها مما يستقيم معه أمر الحياة والإجتماع والعمران والأمن والصلاح. ومبدأ (النهي عن المنكر)، وهو كل ما لا يستقيم معه أمر الحياة، ما يعكر صفاءها وأمنها وعمرانها. كما جعل (العدل) أساس هذه الأخلاق. فهي أخلاق مقتصدة ليست جائرة عن سواء السبيل. ومن شأن الأخلاق العادلة أن لا تتطرف نحو الخروج عن مواصفات الإنسانية، ولا تشذ عن طبيعتها إلى المستوى الملائكي، وما هي ببالغة شأوهم لأنهم جبلوا من غير غرائز ولا نوازع مادية.
وحين قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) [آل عمران: 110]. لم يفهم الناس من هذا التوجيه أنه حديث عن أمة من الأمم باعتبار جنسها أو لونها، بل باعتبار أن أصحابها خير أصحاب دين وأخلاق وخير أصحاب مشروع يقود الإنسانية إلى الأعلى حيث السمو الأخلاقي، ولا يهبط بها نحو مدارج الحيوانية وشهواتها.
ولا تجد في كتاب الله الحكيم مدحا لأهل الترف، وأهل المنجزات المادية الخالية من الأخلاق، بل تجد لهم ذما دائما، وتقريعا مريرا، وهكذا كان نبي الله (هود) يؤنب قومه عادا كما جاء في قصته في القرآن الكريم: "كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله رب العالمين. أتبنون بكل ريع آية تعبثون؟ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون؟" [الشعراء: 123- 129]؟
بل إنه مدح أهل الخلق وأثنى عليهم "وإنك لعلى خلق عظيم" [القلمك 4]. وهكذا كانت أخلاق الأنبياء ومن سار على هداهم وخطاهم إلى يوم الدين. ولا نعني بذلك الخلق المجرد غير المرتبط بالحياة والواقع، بل نريد الخلق الذي يصنع ويبني الحياة بما في الحياة من مظاهر مادية واجتماعية على السواء، وبما فيها من كشف عن سنن الله الطبيعة والحياة.
وأين أخلاقية أوربا من هذا النموذج الذي أراده الله للإنسان المكرم؟ لقد اتجهت أوربا اتجاها لا أخلاقيا منذ عصرنا اليوناني، وحتى المسيحية كما فهمتها لم تغير من أخلاقها شيئا، بل طوعتها لجشعها وعدوانيتها وعنصريتها. أما في عصورها الحديثة التي أطلقت عليها عصور النهضة والحداثة والتنوير، فقد أبعدت الأخلاق كليا عن الحياة، فلا أخلاق في السياسة ولا أخلاق في الإقتصاد والإجتماع، ولا أخلاق في الفن.. فهم ورثة ميكافيلي وهوبز ونيتشه وماركس، كل واحد منهم ودعوته إلى السير على غير هدى الأخلاق.. بل قالوا: إن الأخلاق هي بضاعة الضعفاء!! في غمرة العتو الأوربي والنزعة الدموية العدوانية على العالم…
هذا خط عريض من الخطوط التي تترعرع في منهجية الثقافة، فتكون ثقافة مرتبطة بأخلاق الإنسان، أو ثقافة لا علاقة لها بأخلاق الإنسان. فهل تظن أن أوربا اليوم تحسب لغير الإنسان الأوروبي حسابا، أو تعير له اهتماما إلا إذا كان اهتماما باستغلاله وجعله وسيلة لنموها وأزدهارها، فهي ترقص على حثث الجوعي والقتلى بأسلحتها… وهذا جزء من حياتها وتصورها وثقافتها اللاأخلاقية..
وشتان ما بين المبدأ الأخلاقي القائم على العنصر التكريمي للإنسان، وهذا قائم بدوره على المبدأ التوحيدي الكبير، وبين المبدأ الذي ينفي الأخلاق.
انتضر منكم الردود
بالتوفيق انشاء اللهــ ..
بالتوفيق