لو سمحتم محتاجة تقرير بحثي عن الإسراف
[حق اسلمه يوم الأحد 11-3-2007 مــ
عبدالله الجعيثن
إن الإسراف في مجتمعنا صار ظاهرة، بل هو أكثر من ظاهرة، صار عادة وسجية ينشأ عليها الصغير ولا يستغربها الكبير
من النادر أن يوجد مجتمع آخر على وجه الأرض، يصرف كما نصرف، ولا يحصل على عائد يوازي نصف ما دفع، سواء كان هذا العائد ملموساً بشكل مباشر، أو محسوساً كالسعادة الداخلية والرضا.
ومن النادر – في اعتقادي – أن يوجد مجتمع آخر على وجه الأرض يسرف كما نسرف، ويذهب الكثير من إسرافنا أدراج الرياح، بل إن هذه الرياح التي عصفت به تعود به إلينا مرة أخرى على شكل تواكل وكسل واعتياد على المزيد من الإسراف، واكتساب عادات جديدة لهدر المال وضعضعة الحال!
٭٭٭
٭ وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسرف ولو كنت على نهر جار» فإن السواد الأعظم منا نسرف ونحن لسنا على نهر جارٍ أو غير جارٍ، بل نحن في واقع الأمر نعيش في صحراء جرداء إذا شمّ ترابها الجملُ أَنَّ من الألم لمعرفته بطول الطريق وشح الماء، صحراء جرداء ينطبق عليها في معظمها الساحق قول الشاعر:
تجري بها الرياحُ حسرى مُولَّهةً
حيرى تلوذُ بأطراف الجلاميد
نحن نشرب من الماء المالح، كل قطرة ماء تكلفنا كذا، وتشعرنا بالخطر لو كُنَّا نشعر، ومع هذا فنحن من أكثر خلق الله إسرافاً في الماء، وهدراً له، مع أننا نعلم أن أجدادنا إلى وقت قريب كانوا يتقاتلون على مورد ماء ضئيل، ومع أننا نعلم أنه لا حياة بلا ماء.
٭ ونحن نسرف في الأكل والشرب حتى فشا فينا السّمن، وانتشرت لدينا أمراض الرفاهية والخمول، ومع هذا فنحن نطبخ أكثر مما نأكل بكثير، ونطبخ في البيوت ونأكل في المطاعم، مع أننا ونحن المسلمون أولى خلق الله بالاعتدال في الطعام والشراب، فالله عز وجل يقول لنا: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} سورة الأعراف 31.
ومع أن ر سول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمْنَ صُلْبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه».
ونحن مع الأسف لا نملأ بطوننا فقط، بل نملأ المزابل من حولنا بنعمة الله، قد اعتدنا على طبخ أضعاف حاجتنا، حتى صار هذا لمعظمنا جبلَّة وطبيعة، اعتاده الكبير ونشأ عليه الصغير.
٭ ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع».
ونحن في معظمنا الساحق نعمل بعكس هذا التوجيه النبوي العظيم، مع الأسف الشديد، فنأكل قبل أن نجوع، ولا ننهض حتى نتخم البطون، حتى صارت السمنة لدينا سمة ظاهرة، وأصبحت الكروش البارزة تتدلى في كل محفل وشارع، وتزحم مقاود السيارات وأحزمة الطائرات.
٭ ونحن نشتري الكثير من الأشياء التي لا نحتاج إليها، وننسى أن الذي يشتري ما لا حاجة له سوف يبيع ما يحتاج إليه، في القريب أو في البعيد، أو في أجيالنا القادمة.
لقد صار التسوق والشراء لدينا أكثر من حاجة فعلية، صار تمشية وتسلية، وعادة عمياء، وطرداً للضجر، وما هو بطارده، بل إنه ليزيده مع الأيام، ويصيب النفس بالغثيان، ويملأ البيوت بالمخلفات.
وفيما عشت ورأيت لم أر أسواقاً بكثرة أسواقنا، ولا متاجر بعدد متاجرنا، في كل دول العالم التي هي أغنى منا، نحن أكثرها أسواقاً ومتاجر قياساً لعدد السكان، وهم الأكثر مصانع ومزارع، هم ينتجون.. ونحن نستهلك.. وهم يصدرون.. ونحن نستورد.. السلعة الوحيدة الحقيقية التي نصدرها هي (البترول) وهي سلعة ناضبة، ومورد لا يتجدد، وكل صادراتنا الأخرى تقوم عليه!
أما استيرادنا فبدون حدود، واستهلاكنا فبلا قيود، وتُصَدِّر إلينا دول العالم ما هبّ.. ودبّ.. وتمتلئ أسواقنا بالمغشوش والمقلد.. وبكل ما هو قصير العمر، وبكثير مما هو لا ينفع بل يضر.
٭ أما بناء منازلنا فالإسراف سمته الظاهرة، يتنافس فيه القادر وغير القادر، يعمله الغني ويطمح إليه الفقير، ويتحكم فيه حُبُّ المظاهر أكثر من حُكْم العقل، حتى ازدهرت لدينا تجارة مواد البناء بشكل يفوق الخيال، وأغربنا في أشكال العمارة بدون فن حقيقي، وأسرفنا في مواد التشطيب بدون ذوق راق في كثير من الأحيان، وصار غلاء الأسعار هو المدار والمعيار، فالحمامات تُلَبَّس بالذهب، والواجهات تُكسى بالحجر، والأرضيات تُغَطَّى بالرخام، والدرابزينات تُحَلَّى بالغرائب والعجائب، حتى صار متر الدرابزين الواحد يفوق سعر متر الأرض!
أما الأبواب فأشكال وألوان من حديد مبهرج مزخرف متره براتب موظف، إلى أخشاب من أغلى الأنواع ذات مقابض من أغرب الأشكال، إلى ترخيم وتعتيق وزجاج معشَّق وغير معشَّق وديكورات بلا عدد.
يضاف إلى هذا الإسراف في حجم المبنى لدى أكثرنا، حيث الصالات الواسعة والمفتوحة على بعض من أسفل إلى أعلى، لا يكفيها إلا كذا وكذا، مع عدد من الغرف فوق الحاجة، أما الجناح الرئيسي في كثير من البيوت فقد صار يشبه ملاعب كرة القدم.
٭ وثالثة الأثافي كما يقال، أننا مع هذا الإسراف نعتمد على غيرنا في معظم الأعمال: فعمال البناء أجانب، ومعظم الباعة في المتاجر، وكُلُّ القائمين بالصيانة إلا في النادر.
وحين أذهب إلى البقالة في الصباح الباكر أجد جيوش السيارات التي تحمل المونة والأرزاق، يقودها أجانب ويحملها أجانب، من خبز إلى لحم إلى لبن إلى صحف إلى آخره.
حتى في منازلنا صرنا نعتمد على الأجانب بشكل شبه كامل، حتى الذي يعمل خادماً في مكان آخر لديه في البيت خادم.. حتى أصبح ما تحوله العمالة الوافدة يفوق خمسين ملياراً كُلَّ عام!.. ميزانيات ثلاث دول!
ومع كل جهودنا في إحلال السعودة فإن تحويلات العمالة الوافدة ظلت تزيد ولا تنقص، علماً بأن تلك المبالغ الضخمة هي ما يُعلن عنه رسمياً ويتم عبر المصارف، أما المبالغ التي تُسَلَّم باليد أو يذهب بها المسافرون معهم فأظنها ميزانية دولة رابعة!
ولا لوم على العمالة الوافدة في تحويل تلك الأموال، اللوم علينا، العامل من حقه أن ينال أجره قبل أن يجف عرقه، ومن حقه التصرف فيه كما يشاء، وإرساله إلى أهله في بلده بسرعة البرق، فهو لم يتغرب عبثاً، ولم يأت إلينا لسواد عيوننا – معه حق.. وطالما كان يكسب بشكل نظامي فلا لوم عليه ولا تثريب.. ولكن الكثيرين من الوافدين يكسبون تحت مظلة التستر، وهو كسب ضد النظام.. وحله كما قلنا مراراً هو بقصر (مهنة البائع) و(مهنة سائق سيارة الأجرة صغيرة وكبيرة) على السعوديين وبهذا تتوفر مئات الألوف من فرص العمل للسعوديين، ونوفر المليارات التي تذهب هدراً، ونقضي على مشكلة التستر قضاءً مبرماً.
إن (مهنة البائع) هي أكثر المهن على وجه التقريب، وهي التجارة بمعناها الصحيح، وتسعة أعشار الرزق في التجارة، وطالما كانت (مهنة البائع) مفتوحة للعمالة الوافدة، فسوف تظل أموالنا نازحة، واقتصادنا نازفاً، وشبابنا يواجه مشكلة البطالة، والبطالة أم الرذائل والجرائم والأمراض.
٭ أما المرأة لدينا – وهي نصف المجتمع وأكثر – فلا تزال فرص العمل أمامها محدودة جداً، وكأنَّ قدرها أن تكون طول عمرها إما طالبة أو مُدرّسة، مع بعض الفرص الضئيلة الأخرى.
وبالتالي فإن معظم النساء لدينا تقريباً خارج طاقة العمل تماماً، لا في البيت ولا في المجتمع، في البيت خادمة وأكثر، وفي المجتمع معظم النساء بلاعمل، والمرأة التي لا تعمل أكثر إسرافاً من المرأة العاملة بكثير وأقل اهتماماً بالتدبير والتوفير، لأنها لا تعرف قيمة المال، ولم تجرب التعب في سبيل الحصول عليه، فهي فوق أنها معطلة لا تضيف مورداً للأسرة والمجتمع، تُشَكِّلُ عبئاً آخر بإسرافها، وباعتمادها على خادمة وسائق، وليس الذنب ذنبها، فإن كثيراً من النساء بل أكثرهن في الواقع، يردن العمل لو وجدن العمل المناسب، غير أن المرأة لا تزال تمثل (وسواساً قهرياً) بالنسبة لمجتمعنا بشكل عام، وكأن المجتمع لا يثق فيها، وأشقى المجتمعات على وجه الأرض هي المجتمعات التي لا تثق في المرأة، مثل الرجل الذي لا يثق في زوجته.
إن واقع المجتمع لدينا – والواقع هو المهم – كأنما حفظ من قديم مثلاً عربياً يقول: «لا تغتر بمال ولو كثر ولا تثق بامرأة» ثم طبق الشق الثاني من هذا المثل وعمل عكس الشق الأول، مع أن ذلك المثل أوله صحيح وآخره غير صحيح على الإطلاق.
٭٭٭
ومن مظاهر الإسراف النازف في مجتمعنا ما ننفقه على الصيانة في شتى المجالات، بسبب سوء الاستعمال، والتهور وخاصة في المرور، وبسبب الاستغلال، فنحن تقريباً البلد الوحيد الذي يطالبنا عمال الصيانة – على اختلافهم – بتغيير أي قطعة غيار – ولو كان خللها قابلاً للإصلاح بجديدة مكلفة.
ثم إن جميع من يقوم بالصيانة – إلا في النادر – عمالة وافدة.
٭٭٭
والخلاصة أن الإسراف في مجتمعنا صار ظاهرة، بل هو أكثر من ظاهرة، صار عادة وسجية ينشأ عليها الصغير ولا يستغربها الكبير، ويمارسها الرجل والمرأة على حَدّ سواء وكأنها الأمر الطبيعي الذي يشبه تنفس الهواء.
الظاهرة تعتبر كذلك إذا سادت عند عشرة في المئة من أفراد المجتمع، على وجه التقريب، وتقابل بالمحاربة والبحث والدراسة ووضع البدائل والحلول.. الإسراف لدينا لم يعد ظاهرة تعداها بكثير.. صار صفة غالبة.. وعادة قاهرة.. ساد عند أكثر من نصف المجتمع بكثير.
والحكمة الناضجة تقول:
«لم أر إسرافاً بيناً إلا على حساب حَقّ مضاع».
وهذا بالضبط ما يؤدي إليه الإسراف طال الزمان أم قصر، وهذا ما يؤول إليه حال المسرفين ولو بعد حين، فإن المسرف إما أن يرتشي أو يتحايل لسرقة المال العام أو سرقة الشركة التي يعمل فيها خاصة إن كانت شركة مساهمة (حلال أيتام!) وإن كان عفيفاً لا يسرق ولا يرتشي ولكنه مع ذلك يسرف فإنه سوف يضيع حق أولاده في المستقبل.
إسراف مجتمعنا الآن على حساب الأجيال القادمة.
منقول من جريدة سعودية
وشكلرا على المساعدة
x-x
ربي لاهااانكم و
الله يعطيك العافية .