لقد احتضنت مياه الخليج العربي منذ مئات السنين أفضل اللآلئ وأثمنها، إذ اعتمد سكان الإمارات العربية المتحدة على هذا الكنز الثمين في تحصيل رزقهم، وكانوا يقايضون اللؤلؤ ببضائع أخرى كثيرة. ولقد كان للبحر بشكل عام دور كبير في استقرار العائلات، التي تغير نمط حياتها من الترحل في الصحراء طلباً للكلأ والمياه إلى الاستقرار على شاطئ البحر للعمل في صيد السمك واستخراج اللؤلؤ. ولقد اعتمد الصيادون على الاحتفاظ بما يجود البحر عليهم من كنوز اللؤلؤ إلى أن يتاح لهم مقايضته بما يحتاجونه، ولكن الأمر لم يكن بالسهولة التي نتصورها، إذ إن سكان البلاد كانوا يتكبدون المشقة للغوص لعمق قد يصل إلى 40 متراً أحياناً، معتمدين على خبراتهم ومهاراتهم، غير مجهزين بأي من الأدوات.
وبازدهار الحياة المتنامي في الهند طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ازدادت الحاجة للؤلؤ، مما انعكس إيجاباً على حرفة الغوص في دولة الإمارات، وبدأت تتنامى صناعات أخرى مرتبطة بها، كصناعة القوارب المتخصصة وتوفير الأدوات اللازمة للغوص، وبدأ التجار يستثمرون في تلك الصناعة، إذ كانوا يزوّدون الغواصين برأس المال والقوارب وما يلزم من أدوات، طيلة موسم الغوص، ليحصلوا في المقابل على نسبة عالية من أرباح بيع اللؤلؤ، وما يتبقى من قيمة المبيعات يقتسمه النوخذة وطاقم الغوص، والنتيجة أن بعض الثراء بدأ يظهر على من حالفهم الحظ في العثور على لؤلؤ نفيس. كما يذكر أن أسعار اللؤلؤ كانت تتفاوت، إذ إنه من الثابت أن بعض القطع بيعت بأسعار عالية جداً، وصل سعر بعضها إلى 15 ألف جنيه استرليني في العام 1920، وهو ما يعادل 350 ألف جنيه استرليني في يومنا هذا.
اصطياد الأسماك
وبازدهار صناعة اللؤلؤ، عرف الكثير طعم الاستقرار وبدأوا يقيمون منازلهم على ساحل البحر ضمن تجمعات سكانية مدنية، مما زاد من أهمية مدينتي أبوظبي ودبي،اللتين أصبحتا مركزي تجمع حضاري، على الرغم من أن البعض اختار أن يقيم في موسم الصيد على ساحل البحر – وهي الفترة من مايو وحتى سبتمبر – ليعود بعدها لحياة الصحراء مزاولاً أعمالاً أخرى. ونورد فيما يلي وصفاً لصناعة اللؤلؤ، من واقع ما دونته سجلات الحكومة البريطانية أثناء تواجدها في منطقة الخليج.
عندما يتم التأكد من جاهزية المراكب ومعداتها، يقوم الرجال بدفعها داخل البحر ويبدأون بالتجديف- كل قارب فيه على الأغلب رجلان – مالئين المكان صخباً بترديدهم الأناشيد والأهازيج التراثية الخاصة بالبحر واللؤلؤ، في مشهد أخاذ، حيث تتجمع القوارب بأشرعتها البيضاء التي تنعكس عليها نيران مواقدهم. وتظل الذاكرة تحتفظ بهذا المشهد الجميل الذي لا ينسى.
خور دبي
الصورة لرونلد كودري وحقوق
الملكية لجوستن كودري
الغوص حرفة موروثة، تستند إلى المهارة والدراية الطويلة، ولا تعتمد على أي من الأدوات أو الأجهزة الميكانيكية. والغواصون يفعلون تماماً ما كان يفعله أجدادهم منذ القرن الرابع عشر، فكل واحد منهم يتسلح بأبسط الأدوات، يضع على انفه مشبكاً لمنع دخول الماء، ويرتدي قفازاً من الجلد في يديه كي يتمكن من انتزاع المحارة من بين الصخور، كما يغطي أصابع قدميه بالغطاء الجلدي نفسه لحمايتها. وحتى يتمكن من الغوص إلى العمق، فإنه يتشبث بصخرة كبيرة تأخذه إلى الأعماق، ويبقى متصلاً بعالم السطح وبرفاقه الذين ينتظرون، بحبل مربوط إلى القارب. وعندما يشد الحبل معلناً نهاية المهمة يقومون بسحبه بأقصى سرعة، وكل هذا يتم في فترة لا تتجاوز دقيقة أو دقيقة ونصف الدقيقة، ولكن العملية تتكرر وقد تصل إلى ثلاثين محاولة في اليوم الواحد،والعمق قد يصل إلى 84 قدماًَ. أما محارات اللؤلؤ، فتجمع على سطح القارب وتفتح أصدافها في المساء، ليحصد الغواصون ثمار مكابدتهم ليوم كامل، ويتم ذلك مرصوداً بعيون النوخذة المترقبة، إذ يقوم النوخذة بجمع حبات اللؤلؤ ووضعها في صندوقه. والطريف في الأمر، أن كل غواص لا يعرف ان كانت محارته هي التي جلبت الحظ السعيد أم غيرها.
وما يجدر ذكره أن الغواصين لا يتناولون أياً من الأطعمة أثناء عملهم، فهم يكتفون بوجبة خفيفة في الصباح، وأخرى بعد انتهاء العمل في المساء، وتكون في العادة عبارة عن أرز وتمر وسمك. وبعد استخراج كنوزها تعاد أصداف المحار الفارغة إلى البحر، بسبب اعتقاد الناس هنا أن المحار يتغذى على الصدف، وان هذه الأصداف الفارغة سوف تجمعها حبات المطر وتصنع منها لؤلؤاً جديداً.
إن العمل مضن والظروف المحيطة صعبة، ولكن الغواصين يتمتعون بوافر الصحة، ويظهر ذلك على أجسامهم الصلبة القوية، كما أن الغواصين لا يحصلون على أجر يومي مقابل عملهم، بل ينتظرون حتى نهاية الموسم لاقتسام الأرباح، وعندها كل يأخذ حصته، إذ يظفر الغواص بضعف ما يأخذه من يمكث في القارب لسحب الحبل.
قرية الغوص
يجب الاعتراف بأن صناعة اللؤلؤ جلبت كثيراً من الحظ الوافر والثروة لسكان الإمارات، إلا أنها حرفة مملوءة بالخطر المجهول. وحتى يتمكن الغواصون من جلب بعض المال لعائلاتهم، كان عليهم أن يمكثوا في البحر لشهور عدة بعيداً عن عائلاتهم وأولادهم. ولتسهيل حياة عوائلهم، كان الكثيرون يحصلون على دفعات مقدمة من أصحاب القوارب وإن لم تغط عوائد رحلتهم المبالغ المقترضة، فتظل ديناً في ذمتهم للموسم المقبل، ومع اختلاف المواسم وعوائدها يحدث أن تبقى الديون تتراكم طوال حياتهم، وكانوا حين تجود المواسم بخيرها، يقومون بشراء قطع أرض في واحة غناء، مثل العين، حيث يمكنهم التمتع بجني ثمار النخيل التي تتوزع في كل مكان.
ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، ففي العام 1930، وحين كان يعاني العالم كله من كساد اقتصادي، اكتشف اليابانيون وسيلة جديدة للحصول على اللؤلؤ، وذلك بتربية المحار في مزارع خاصة وإنتاج اللؤلؤ بكميات هائلة. وإذا كان المكتشفون قد فرحوا باكتشافهم هذا، فإن الشعوب الأخرى، التي كانت تعتمد على الغوص، أصابها ما أصابها وتأثر الخليج أيما تأثر، مما أدى إلى تردي الوضع الاقتصادي.
ولم يكن تأثر دبي في حدة تأثر المناطق المجاورة، بسبب أن آل مكتوم؛ حكام دبي، كانت لديهم نظرة بعيدة المدى، إذ اعتمدوا منذ البداية على التجارة الحرة وجعلوا من دبي ميناء تجارياً مهماً، إلا أن الخليج ككل ظل يعاني من آثار تدهور حرفة الغوص حتى ظهر النفط.