يا لسعادة الشاكرين! فإنهم يعيشُون في اطمِئنانٍ ونعيمٍ ويقين!
فلو نَظرتَ إلى العَبدِ الشاكرِ؛ ألْفَيتَه رجلاً مُطمَئنَّ القَلبِ قَرِيرَ العينِ، فهو راضٍ عن ربِّه تَمامَ الرِّضا؛ لِما يراه مِن نِعَمِ الله تثرى عليه صباحاً وعَشياً؛ مما يملأ قلبَه حبّاً لله ورجاءً فيه ويقيناً في رحمتِه واطمئناناً إلى لطفِه وفضلِه وطمعاً في جُودِه وكَرَمِه. فقد قال – عز وجل -: {وإذ تأذَّنَ ربُّكم لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديدٌ}. قال القرطبي – رحمه الله -: "الشاكر مُعرَّضٌ للمزيدِ كما قال (لئن شكرتم لأزيدنكم)". "والآية نصٌّ في أنَّ الشكرَ سببُ المزيد"، وقال جعفر الصادق: "إذا سمعتَ النعمةَ نعمةَ الشكرِ؛ فتأهَّبْ للمزيد (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) أي جحدتم حقي، وقيل: نعمي؛ وعد بالعذاب على الكفر كما وَعدَ بالزيادة على الشكر".
بينما الجاحِدُ..لا يهدأ له بالٌ..ولا يرتاحُ له قلبٌ ولا ذِهنٌ؛ لأنَّه يشعرُ بألَمِ المعصيةِ وعُقدةِ الذنبِ ووَخزِ الضميرِ؛ ولأنه كذلك يرى نفسَه أهلاً لأن يُنعِمَ الله عليه بأكثرَ من هذه النعم! فكلُّ ذلك يُنغِّصُ عليه حياتَه ويُفسِد عليه سَعادتَه، ويُشعره دائماً بقلةِ ما هو فيهِ وانعِدامِ السعادة والهناء. ولو أُعطِيَ الدنيا كلَّها لم يُرضِه ذلك؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم -: (ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع)! .
وكذلك مَن يجحد نِعَمَ الله عليه؛ يُحْرَم نعمةَ الطمأنينة ولذةَ الشعورِ بالسعادة الحقةِ التي لا تكتمل إلا برضوانِ اللهِ عن العبدِ وإقبالِ العبدِ على ربِّه بالمحبة والرضا والذل والطاعة؛ ولله درُّ ابن القيم ما أصدقَ قولَه: "في القَلبِ شَعَثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبالُ على اللهِ، وفيهِ وٍحْشَةٌ لا يُزِيلُها إلا الأُنْسُ به في خَلْوتِه، وفيه حُزنٌ لا يُذْهِبُهُ إلا السُّرُورُ بمعرفتِه وصِدْقُ مُعامَلَتِه، وفيه قَلَقٌ لا يُسَكِّنُه إلا الاجتِماعُ عليه والفِرارُ منه إليه، وفيه نِيرانُ حَسَراتٍ لا يُطْفِئها إلا الرِّضا بأمْرِه ونَهْيِه وقضائه، ومُعانَقةُ الصبرِ على ذلك إلى وَقتِ لقائه، وفيهِ طلبٌ شديدٌ لا يَقِفُ دون أنْ يكونَ هو وحدَه مَطْلُوبَه، وفيه فاقَةٌ لا يَسُدُّها إلا مَحَبتُه والإنابةُ إليه ودوامُ ذِكْرِه وصِدْقُ الإخلاصِ له؛ ولو أُعْطِيَ الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقةُ مِنه أبدا".
وتأمَّلْ سَعادةَ إبراهيم – عليه السلام – خليل الرحمن الذي كان (شاكراً لأنعُمِه) وهو يُبَيِّنُ عَلاقتَه بربِّه وصِلَتَه الوثيقةَ باللهِ وحدَه: {فإنهم عَدوٌّ لي إلا ربَّ العالَمِين الذي خلَقَنِي فهو يَهدين والذي هو يُطعِمني ويَسقين وإذا مَرضتُ فهو يَشفِين والذين يُميتُنِي ثم يُحيِين}؛ فهو "يعيشُ بكيانِه كلِّه مع ربِّه، ويتطلعُ إليه في ثِقةٍ، ويتوجهُ إليه في حُبٍّ".
وقد امتنَّ الله – عز وجل – على الشاكرين بأنه قد أسعدَهم بنعمةِ الأمنِ والنصرِ والرزقِ، فقال-جلَّ جلالُه-: {واذكُرُوا إذْ أنتم قليلٌ مُستَضْعَفُون في الأرضِ تخافون أن يتَخَطَّفَكم الناسُ فآواكم وأيَّدكم بنَصْرِه ورزقَكم من الطيِّباتِ لعلَّكم تشكرون}.
فالشاكر يعيش في بحبوحة من السعادة وواحة من الرضا وفي نعيم دائم لا ينقطع؛ من تذكُّرِ آلاءِ الله الكثيرة ونعمائه الوفيرة؛فكلما تذكر منها نعمة ماضية أو وهبه الله نعمة حاضرة؛ شكر الله عليها وسأله دوامَها وبركتَها وحُسنَ الانتِفاع بها.
ولله درُّ ابن القيم؛ حيث أدرك عظمة هذه السعادة النفسية التي يتفيأ ظلالَها العبدُ الشاكرُ لربِّه المعترفُ بفضلِه؛ حيث ربط بين الشكر وبين الرضا، فقال – رحمه الله -: "منزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضا وزيادة؛ فالرضا مندرجٌ في الشكر؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه". .
وتدبَّرْ قولَ نبيِّ الله سليمان – عليه السلام – حين عَبَّر عن هذه السعادة النفسية خيرَ تعبيرٍ وقد أنعم الله عليه وجاءه بعرشِ بلقيس قبلَ أن يرتد إليه طَرفُه: {هذا من فضلِ ربِّي ليَبلُوَنِي أأشكُرُ أم أكفُر ومَن شَكَرَ فإنما يَشكُرُ لِنفسِه ومَن كفرَ فإنَّ ربِّي غنِيٌّ كريم}. وقولَ الله – عز وجل -: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكرْ لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفرَ فإنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
وقال الطبري – رحمه الله -: "ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه؛ لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب وينقذه به من الهلكة. {ومن كفر فإن الله غني حميد} يقول: ومن كفر نعمة الله عليه إلى نفسِه أساء؛ لأنَّ الله مُعاقِبُه على كُفرانِه إياه والله غنِيٌّ عن شُكرِه إياه على نِعَمِه لا حاجة به إليه؛ لأن شُكرَه إياه لا يزيد في سُلطانِه ولا ينقصُ كفرانُه إياه مِن مُلكِه". وقال القرطبي – رحمه الله -: "(ومَن شَكَرَ فإنما يَشكُر لِنَفسِه): أي لا يرجع نفعُ ذلك إلا إلى نفسِه؛ حيث استوجَبَ بِشُكرِه تَمامَ النعمةِ ودوامَها والمزيدَ منها. والشكرُ قَيدُ النعمةِ الموجودةِ، وبه تُنالُ النعمةُ المفقودةُ".
وقال ابن كثير – رحمه الله -: "قال – تعالى -:{ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله – تعالى –: {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون}". وقال "الشوكاني: "بَيَّنَ – سبحانه – أنَّ الشُّكرَ لا ينتفعُ به إلا الشاكرُ، فقال: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه}؛ لأن نفع ذلك راجع إليه وفائدته حاصلة له؛ إذ به تستبقى النعمة وبسببه يستجلب المزيد لها من الله – سبحانه -: {ومن كفر فإن الله غني حميد}: أي من جعل كفر النعم مكان شكرها؛ فإن الله (غنِيٌّ) غير محتاج إليه (حميد) مستحق للحمد من خلقِه لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها ولا يحصر عددها؛ وإن لم يحمده أحدٌ من خلقه؛ فإنَّ كلَّ مَوجودٍ ناطِقٌ بحمدِه بلسانِ الحال".
ومَن قرأ كتابَ الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذه الروحِ العارِفةِ بالله المعترفةِ بفضلِه ورحمتِه؛ كان أسعدَ الناسِ قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم ثناءً وحمداً؛ ولله دَرُّ صاحبِ الظِّلالِ حينَ قال: "مِنْ رَحمةِ الله أنْ تُحِسَّ بِرَحمةِ الله؛ فرحمةُ اللهِ تَضُمُّك وتَغْمُرُك وتَفِيضُ عَلَيْك؛ ولَكِنْ شُعُورُك بِوُجودِها هو الرَّحمةُ، ورَجاؤك فيها وتَطَلُّعُك إليها هو الرَّحمةُ، وثِقَتُك بها وتَوَقُّعُها في كلِّ أمْرٍ هو الرَّحمة… ورَحمةُ اللهِ لا تَعِزُّ على طالبٍ في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ حالٍ؛ وَجَدَها إبراهيمُ – عليه السلام – في النارِ، ووَجَدَها يوسف – عليه السلام – في الْجُبِّ كما وَجَدَها في السِّجن. ووَجَدَها يونسُ – عليه السلام – في بطنِ الْحُوتِ في ظُلُماتٍ ثلاث. وَوَجَدَها موسى – عليه السلام – في اليَمِّ وهو طِفْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ كلِّ قُوةٍ ومِن كلِّ حِراسةٍ، كما وَجَدَها في قَصرٍ فرعون وهو عَدُوٌّ له مُتَرَبِّصٌ به ويَبحثُ عنه. ووَجَدَها أصْحابُ الكهفِ في الكهفِ حين افْتَقَدُوها في القُصُورِ والدُّورِ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: {فَأْوُوا إلى الكَهفِ يَنْشُرْ لكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِه}، ووَجَدَها رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وصاحبُه في الغارِ والقومُ يتبعونَهما ويَقُصُّون الآثار، ووَجَدَها كلُّ مَن آوَى إليها يائساً مِن كلِّ مَنْ سِواها؛ مُنقطِعاً مِن كلِّ شُبْهَةٍ في قُوةٍ ومِن كلِّ مَظِنَّةٍ في رَحمةٍ؛ قاصِداً بابَ اللهِ وَحْدَه دُونَ الأبواب".
جزا الله كاتب الموضوع خير الجزاء
و في ميزان حسناتج
وجزاج الله ألف خير
والله يعطيج العافيه