اسمحولي اذا كان غلط
العقل و الإيمان.. البحث عن ضرورة التكامل
دين ودنيا
الجمعة 9/5/2008
إلياس غصن إبراهيم
يعتبر الدخول في التحليل النقدي للعقائد الدينية من أكثر المغامرات خطراً حتى وإن كان البحث يستهدف إشكاليات التطبيق وليس الاختلاف حول تفاصيل العقيدة ومقاربتها للواقع.
وليس خافياً على أحد أن العقائد الدينية استناداً إلى النصوص التي وصلت إلى البشر منذ آلاف السنين تنطوي على كمٍ كبير من العموميات والغيبيات التي كانت موضع اجتهادٍ تعاطى مع الجوهر في بعض المسائل, أو اكتفى بالتعامل مع الشكل (الطقوس) وهو ما أنتج ما نعرفه بالطوائف, ثم المدارس وما يقابلها في الغرب المسيحي – الكنائس -.
حاولت تقديم العنوان بصيغةٍ توفيقية في ساحة الصراع – بما تعنيه الكلمة – ما بين معتنقي العلمانية بمواجهة الجبهة الإيمانية – إن صحَّت التسميات – فبعضهم يدعو إلى عقلنة الدين وليس عقلنة الإيمان, وإلاّ ّففك الاشتباك (فصل الدين عن إدارة الحياة اليومية بعد أن تعقدت متطلبات هذه الإدارة وأصبحت عبئاًعلى الإدارة الدينية) إذا تعذرت مقاربة النصوص أو إعادة قراءتها بما يناسب الزمن هو الحل المثالي لكلا المختلفين كما حدث في المسيحية بعد حروب الكنيسة في العصور الوسطى. وفك الاشتباك يتطلب تحديد الحدود مابين الدين والدنيا.
إن كنت من دعاة عقلنة الإيمان فلا يعني أنّي مختلف مع دعاة عقلنة الدين إلاّ لأنها دعوة استفزازية قد لاتعطي النتائج المرجوة وهي إمكانية العيش المشترك بين المختلفين, مع قناعتي بقدرة العيش المشترك بين العلمانية والدين, وقد ذهبت أبعد من ذلك باعتقادي أن الدين مؤسس العلمانية حسب مقالة سابقة في جريدة الثورة في العدد رقم 12364 تاريخ 25 / 3/ 0042 وبلغت هذا الاعتقاد بملاحظتي لمسيرة العقيدة المسيحية عبر التاريخ وتطابقها مع ما يجري في الممارسة الراهنة للعقيدة الإسلامية, وخلاصته التشابك ما بين رسالة الدين وحركة الحياة اليومية, وأسوأ نتائجها تحميل الإرادة الإلهية سلبيات الحياة وتناقضاتها المحمولة على جدلية كون الإنسان مسيّر أم مخيّر, وهي جدلية لم تحسم لأن النص الديني في المسيحية والإسلام يوحي بالوجهين, ويكون الإنسان بريء من ذنوبه كونه مسيّر ومسؤول عنها لأنه مخيَّر.
عامل آخر يوجب البحث الجاد لعقلنة الإيمان ضمن الحدود التي لا تحمِّل العقيدة تبعات القفزات البعيدة للتقدم العلمي نحو الأمام, بما يظهر فشل الدين وتخلفه عن مواكبة العقل, أي عدم وضعهما في سياق تنافس, وإنما في إطار التكامل بهدف سعادة الإنسان وتحقيق حياة مستقرة له على الأرض.
أوضّح هذه الفكرة بمثال معاصر وهو كيفية رؤية عامة الناس للقمر من الناحية الروحية قبل وصول الإنسان إليه, وكيف تبدلت هذه الرؤية لاحقاً, مع تأكيدي بأنها كانت رؤية مشتركة لكل عامة المجتمعات على تنوع دياناتها السماوية وعقائدها, وهي رؤية كانت ناتج التغييب القسري للعقل وسجنه في قفص من المحرمات والمحللات تستند للاجتهادات, ولا علاقة لها بالنصوص.
ربما في مشرقنا نتذكر هذا الأمر يومياً, وهو مدى حاجتنا لإعادة تقييم فهمنا للدين, لأن الدين بكل تنوعاته السماوية مرتبط بنا جغرافياً ثم صار ثقافياً, وأعتقد أننا تمادينا في خصخصة الدين مسيحيين ومسلمين, فنتشدد في عروبة السيد المسيح أحياناً, وضيقنا عليه الجغرافية حتى صار (المسيح السوري), ونجعله أرثوذكسياً في مكان وكاثوليكياً في مكان آخر, وتشتد الخصخصة لدى بعض المسلمين على جبهات الدفاع عن الله والذود عنه ليس بالكلمة والحجة التي أوصى بها الله, وإنما يذهب الاجتهاد أبعد من ذلك باتجاه القتال حتى القتل المحرم, وصار البعض أوصياء متناسين أن الله هو الوصي على مخلوقاته.
وعندما بدأت أعباء الحياة المادية تعقلن العلاقة بين المجتمعات المتنوعة, جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتعيد هيمنة الغرائز, بل ذهبت بكل ما قدمته العقلنة لعلاقاتها إلى درجة تحييد العقل كلياً والعودة إلى سلطة وهيمنة المفاهيم الإيمانية المضللة كما يتضح من إجابة أحد المواطنين الأردنيين على سؤالٍ لأحد معدي البرامج الفضائية عن أسباب هزيمة العرب في حرب عام سبعةٍ وستين من القرن الماضي بقوله (أ ن أسباب هزيمتنا هو ابتعادنا عن الإسلام), وكأن العدو الذي هزمنا أكثر إسلاماً, أو أكثر قرباً إلى الإسلام منا.
هكذا وبكل بساطة تُحمَّل علاقتنا بالدين وزر هزيمتنا, ويحمل الإسلام مسؤولية انتصار أعدائنا اليهود الصهاينة علينا فقد أراد الله نصرهم رداً على جحودنا !!!.
تبدو أنظار العالم اليوم متجهة نحو الإسلام – إن لم نقل شغله الشاغل – بعد أحداث الحادي عشر من أيلول أول القرن الحالي, خصوصاً بعد أن أعطت الإدارة الأمريكية الدين الإسلامي هوية الإرهابي, ولسبب بني على شكل الحدث كون أدوات التنفيذ تنتمي إلى الدين الإسلامي, دون أن يؤخذ بالاعتبار طبيعة الهدف ودقة ومهارة التنفيذ بما يوحي بوجود عناصر أخرى مساهمة في ذلك على قاعدتين :
1. القاعدة الأولى: تتجاهل أن الحدث كان رد فعل قبل أن يكون فعلاً, لأن المجتمعات الإسلامية تعاني إفقاراً لا فقراً, وأمريكا المساهم الأول في انقسام العالم ما بين غني وفقير, ومساهم أساسي في توزيع الدول ما بين شمال وجنوب, ولهذا كانت أمريكا الهدف, وهي الأكثر تحصيناً في الجانب الأمني, وكان بالإمكان اختيار هدفٍ أسهل في المعسكر الغربي لوكان الأمر صراع حضارات كما سوّق لذلك منظرو البنتاغون, وإنما يمكن فهمه على أنه رد فعل (ساوى الفعل في قيمته الجرمية).
2. القاعدة الثانية: هي الإصرار على إلباس الجريمة للعقيدة الإسلامية لا لبعض من يعتنق الإسلام وفق فهمه الخاص له,متجاهلين أن كل الديانات تحتمل رؤى وفهماً مختلفاً لأتباعها,وقد تكون مغالية في هذا الفهم حتى حدود التناقض مع رسالته كما نرى اليوم فيما يعرف بالمسيحية الصهيونية التي توحي أنها مؤتمنة على إيصال رسالة السيد المسيح في الحرية والعدالة بقوة السلاح لا بقوة السلام والمحبة.
من هاتين القاعدتين يمكن أن نستنتج أن ما يدعى الحرب على الإرهاب الآن ما هو إلاّ المقدمة الواقعية لنظرية صدام الحضارات التي تمثل المدخل الجديد, بل الفلسفة الحقيقية للونٍ جديد من الاستعمار يبحث عن مبررات واقعية مقنعة لمجتمعات المستعمرين الجدد, ونحن المستهدفون معنيون بالدفاع عن أنفسنا ابتداءً من سحب المبررات بتقديم صورة الدين الحقيقية التي تتوافق مع متطلبات العصر التي يجب ان تبنى على العقل الذي يقول بتوافق الدين مع العقل والإيمان, يضاف إلى ذلك ترسيخ رسالة الديانات السماوية في الحفاظ على حياة الإنسان المهددة يومياً بوحشية النزعة المادية التي نعيش نتائجها ازدياداً في الفقر, واتساعاً للأوبئة التي تستهدف مجتمعات الفقر ذاتها.
وهذا المسار لم تكتشفه المسيحية إلاّ بعد قرون من المعانات عاشها العالم المسيحي بتصاعدٍ حتى وصل إلى مرحلة محاكم التفتيش التي أوصلت المسيحيين إلى حافة الكفر بالعقيدة وكان المخرج هو فصل الدين عن السياسة, وتبرئة الدين من تناقضاتها ومسالكها التي تتعاكس مع نزاهة العقائد ونقائها.
إن أكثر ما يسيء إلى حقيقة العقيدة هو التمادي في فلسفتها وتفسيرها على يد مجتهدين تحكمهم نوازع إنسانية تسيرها أهواء ومآرب تنتجها الظروف المحيطة, وحاجات آنية لخدمة عقلية السلطة الزمنية, ويمكن أن أوضح ما أصاب العقيدة المسيحية من حرج خلال صراعات الكنيسة والمجتمع بمثالين :
لقد كفّرت الكنيسة جان دارك محررة فرنسا لمخالفتين لتشريعاتها في ذلك الوقت وهما ارتداء ثياب الرجال و قيادتها الجنود وهي مهمة الرجال وليس النساء, وهو ما اقتضى إعدامها حرقاً وهي حية, وكل هذا باسم رسالة السيد المسيح التي فهمتها الكنيسة (السلطة) دون سواها على هذا النحو, وهذا ما اقتضى اعتذاراً من الكنيسة وإعادة تطويبها قديسة بعد أن تغيرت عقلية الكنيسة دون تغيير في عقلية العقيدة.
أعدم غاليلو لأنه تحدث عن الجاذبية كفعل طبيعة متجاوزاً الإرادة الإلهية التي تراها الكنيسة محرك وحيد لأجزاء الكون, واضطرت الكنيسة لاحقاً للاعتذار من العالم عن جريمة اقترفتها بحق العلم الذي هو نتاج العقل, وربما نتاج الله.
ويمكن قياساً على ذلك استرجاع أمثلة كثيرة حمّلت الكنيسة أعباء ليست في صالح رسالتها الإنسانية.
أي إنسان يمتلك خلفية إيمانية يرفض – وبحدّة المؤمن الواثق – الفصل بين الدين والعقل, ويرفض ما أشرت إليه بدايةً (عقلنة الدين),لأن الدين نتاج العقل كما يفهمه العلمانيون, ونتاج الإرادة اللإلهية التي اختارت الأنبياء بما يتصفون من الحكمة والعقل.
الوحش البشري مغتصب الطفلة الذي أعدم بتاريخ 9 / 7 / 2024 في إحدى ضواحي مدينة دمشق طلب قبل تنفيذ حكم الإعدام به غسل الجنابة وتأدية الصلاة !!! تيَّمم (جريدة الوطن 10 / 7 / 2024), وكأن الجنابة أكثر كفراً من فعلته التي فاقت وحشيتها شذوذ الوحوش بحق طفلة في سنواتها الأولى.
يمكن ملاحظة كثير من الممارسات اليومية التي تشير إلى ما يدل على العلاقة الملتبسة ما بين الإنسان والعقيدة الدينية التي ينتسب إليها. وقد قصدت في الإشارة لعلاقة الانتساب التذكير بغياب عامل الحرية في الاختيار الذي يرتب على المنتمي التزاماً أخلاقياً ذاتياً يضاف للالتزام الديني (واجب الطاعة), أي أن الانتماء أصبح جزءاً من حالة جماعية, والمنتمي صار محكوماً برقابتها أكثر من أي رقابة أخلاقية ذاتية.
وهنا يجب التفريق بين كون العقيدة حالة اجتماعية تكون علاقة الفرد بها جزءاً من علاقاته الاجتماعية وتخضع لاعتباراتها – تضعف وتقوى حسب قوة وضعف دور المجتمع في الفرد – وبين كونها مسالة شخصية, بل إحدى السمات الذاتية للفرد كجزء من طباعه الخاصة وسلوكه المميز. فالحلال والحرام مسألة قناعة وليست موضوع ثواب وعقاب, أياً كان مصدر الثواب والعقاب.
______________________
مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية