فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فتقواه خير زاد، وهي نعم العدة ليوم المعاد.
أيها المسلمون، يجد المتبصر في أمور الحياة وشؤون الأحياء يجد فئات من الناس تعيش ألواناً من التعب والشقاء، وتنفث صدورها أنواعاً من الضجر والشكوى، ضجر وشقاء يعصف بالأمان والاطمئنان، ويفقد الراحة والسعادة، ويتلاشى معه الرضى والسكينة. نفوس منغمسة في أضغانها وأحقادها وبؤسها وأنانيتها، ويعود المتبصر كرة أخرى ليرى فئاتٍ من الناس أخرى قد نعمت بهنيء العيش وفيوض الخير، كريمة على نفسها، كريمة على الناس، طيبة القلب سليمة الصدر طليقة المحيا. ما الذي فرق بين هذين الفريقين؟ وما الذي باعد بين هاتين الفئتين؟ إنه الإيمان وحلاوة الإيمان. ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً))[1]. بذلك أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كما أخبر أن ((ثلاثاً من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))[2].
أيها الإخوة، للإيمان طعم يفوق كل الطعوم، وله مذاق يعلو على كل مذاق. ونشوة دونها كل نشوة.
حلاوة الإيمان حلاوة داخلية في نفس رضية وسكينة قلبية تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدماء في العروق.
لا أرقَ ولا قلق ولا ضيق ولا تضييق، بل سعة ورحمة، ورضىً ونعمة: ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً [النساء:70]. وذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الحديد:12].
الإيمان بالله هو سكينة النفس، وهداية القلب، وهو منار السالكين وأمل اليائسين، إنه أمان الخائفين ونصرة المجاهدين. وهو بشرى المتقين ومنحة المحرومين. الإيمان هو أب الأمل وأخ الشجاعة وقرين الرجاء. إنه ثقة النفس ومجد الأمة وروح الشعوب.
وأول منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان وطعم السعادة الرضى بالله عز وتبارك رباً مدبراً فهو القائم على كل نفس بما كسبت، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، قيوم السماوات والأرضين، خالق الموت والحياة والأكوان. مسبغ النعم، مجيب المضطر إذا دعاه وكاشف السوء. أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، سوَّى الإنسان ونفخ فيه من روحه، أطعمه من جوع، وكساه من عري، وآمنه من خوف، وهداه من الضلالة، وعلمه من بعد جهالة.
إيمان بالله تستسلم معه النفس لربها، وتنزع الى مرضاته، تتجرد عن أهوائها ورغباتها، تعبده سبحانه وترجوه، تخافه وتتبتل اليه، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، رضىً بالله ويقين يدفع العبد الى أن يمد يديه متضرعاً مخلصاً: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك))[3].
ومذاق الحلاوة الثاني ـ أيها الإخوة ـ: الرضى بالإسلام ديناً، دين من عند الله أنزله على رسوله ورضيه لعباده ولا يقبل ديناً سواه.
اسمعوا إلى هذا التجسيد العجيب للرضى بدين الله؛ غضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على زوجته عاتكة فقال لها: والله لأسوأنك. فقالت له: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله إليه؟ فقال: لا. فقالت: أي شيء يسوءني إذن؟! الله أكبر… إنها واثقة مطمئنة راضية مستكينة مادام دينها محفوظاً عليها حتى ولو صب البلاء عليها صباً.
بل إن إزهاق الروح مستطاب في سبيل الله على أي جنب كان في الله المصرع. الإسلام منبع الرضاء والضياء، ومصدر السعادة والاهتداء.
ومذاق الحلاوة الإيمانية الثالث: الرضى بمحمد رسولاً ونبياً. محمد الناصح الأمين، والرحمة المهداة، والأسوة الحسنة، فلا ينازعه بشر في طاعة، ولا يزاحمه أحد في حكم: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].
الرضى بمحمد اهتداءً واقتداءً. وبسنته استضاءةً وعملاً.
أيها الإخوة، إذا صح الايمان ووقر في القلب فاض على الحياة، فإذا مشى المؤمن على الأرض مشى سوياً، وإذا سار سار تقيا، ريحانة طيبة الشذى، وشامة ساطعة الضياء. حركاته وسكناته إيمانية مستكينة: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه))[4].
من ذاق حلاوة الايمان طاب عيشه، وعرف طريقه، ومن عرف طريقه سار على بصيرة، ومن سار على بصيرة نال الرضى وبلغ المقصد.
نعم يمضي في سبيله لا يبالي بما يلقى، فبصره وفكره متعلق بما هو أسمى وأبقى يأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر:27، 28]. أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22].
هل رأيت ـ رحمك الله ـ زياً ومنظراً أحسن وأجمل من سَمْت الصالحين؟!
وهل رأيت ـ وفقك الله ـ تعباً نصباً ألذ من نعاس المتهجدين؟!
وهل شاهدت ـ حفظك الله ـ ماءً صافياً أرق وأصفى من دموع النادمين على تقصيرهم والمتأسفين؟!
وهل رأيت ـ رعاك الله ـ تواضعاً وخضوعاً أحسن من انحناء الراكعين وجباه الساجدين؟!
وهل رأيت ـ عافاك الله ـ جنة في الدنيا أمتع وأطيب من جنة المؤمن وهو في محراب المتعبدين؟! إنه ظمأ الهواجر ومجافاة المضاجع… فيالذة عيش المستأنسين.
هذه حلاوتهم في التعبد التحنث.
أما حلاوتهم في سبح الدنيا وكدها وكدحها. فتلك عندهم حلاوة إيمانية تملأ الجوانح بأقدار الله في الحياة. اطمئنان بما تجري به المقادير، رضىً يسكن في الخواطر فيقبل المؤمن على دنياه مطمئناً هانئاً سعيداً رضياً. مهما اختلفت عليه الظروف وتقلبت به الأحوال والصروف. لا ييأس على ما فات ولا يفرح بطراً بما حصل. إيمان ورضىً مقرون بتوكل وثبات، يعتبر بما مضى ويحتاط للمستقبل ويأخذ بالأسباب، لا يتسخط على قضاء الله، ولا يتقاعس عن العمل، يستفرغ جهده من غير قلق، شعاره ودثاره: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
موقن أن ((ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه))[5]. لو اجتمع أهل الأرض والسماوات على نفعه بغير ما كتب له فلن يستطيعوا، ولو اجتمعوا على منعه عما قدر له فلن يبلغوا. لا يهلك نفسه تحسراً، ولا يستسلم للخيبة والخذلان. معاذ الله أن يتلمس الطمأنينة في القعود والذلة والتخاذل والكسل، بل كل مسارات الحياة ومسالكها عنده عمل وبلاء، وخير وعدل، وميدان شريف للمسابقات الشريفة. جهاد ومجاهدة في رباطة جأش، وتوكل وصبر. ظروف الحياة وابتلاءاتها لا تكدر له صفاءً ولا تزعز له صبراً ((عجبا لأمر المؤمن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا لمؤمن))[6].
بالإيمان الراسخ يتحرر المؤمن من الخوف والجبن والجزع والضجر قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
((لا مانع لما أعطى ربنا، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد))[7].
ورَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [الإسراء:30].
حلاوة ورضاً تقوم في حياة الكفاح على هذه الأصول والمبادئ؛ إذا أعطي تقبل وشكر، وإذا منع رضي وصبر، وإذا أمر ائتمر، إذا نهي ازدجر، وإذا أذنب استغفر.
بهذا الإيمان وبهذا المذاق ينفك المؤمن من ربقة الهوى، ونزعات النفس الأمَّارة بالسوء وهمزات الشياطين وفتن الدنيا بنسائها ومالها وقناطيرها ومراكبها وسائر مشتهياتها وزينتها، سعادة وحلاوة ملؤها القناعة. سعادة وحلاوة يتباعد بها عن الشح والتقتير والبخل والإمساك، وينطلق في معاني الكرم والإيثار والعطاء.
إن في حلاوة الإيمان ترطيباً لجفاف المادة الطاغية، وحداً من غلواء الجشع والجزع، وغرساً لخلال البر والمرحمة. ومن ثم تتنزل السكينة على القلوب، وتغشى الرحمة النفوس: أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ [المجادلة:22].
فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ [طه:123].
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
تحياتي عاشقة الحاسوبM
اختيار مميز