تعريف الحديث الصحيح لذاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
الشيخ الإمام -العالم العلامة، الرحلة المحقق، بحر الفوائد، ومعدن الفرائض، وعمدة الحفاظ والمحدثين، وعدة الأئمة المحققين، وآخر المجتهدين- شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الدمشقي -رحمه الله-، ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين-:
الحديث الصحيح: هو ما دار على عدل متقن، واتصل سنده، فإن كان مرسلا ففي الاحتجاج به اختلاف، وزاد أهل الحديث سلامته من الشذوذ والعلة، وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيرا من العلل يأبونها، فالمجمع على صحته إذن: المتصل السالم من الشذوذ والعلة، وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة وعدم تدليس.
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، المتوفى سنة سبعمائة وثمانية وأربعين، من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا الكتاب: متعلق بعلوم الحديث وفي بيان اصطلاح أهل هذا الفن، وهذا الاصطلاح -اصطلاح أهل الفن-: ينبغي لكل طالب علم أن يعرفه؛ لأنه ينبني عليه معرفة ما صح من الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما لم يصح.
وهذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام الذهبي -رحمه الله- كتاب مختصر نافع مفيد، وتظهر أهميته في أن الإمام الذهبي -رحمه الله- له تعقبات وتعليقات على من سبقه، وهذه التعقبات والتعليقات صادرة عن إمام له نفس حديثي، ليس كغيره ممن سلف.
فبعض من تقدم تكلم في هذا الاصطلاح، إلا أنه غلب عليه الجانب الفقهي، وأما الإمام الذهبي -رحمه الله- وإن كان قد اختصر هذا الكتاب من كتاب " الافتراق " لشيخه ابن دقيق العيد الذي اختصره من " علوم الحديث " للحافظ ابن الصلاح؛ إلا أن نفس الإمام الذهبي الحديثي ظهر في هذا الكتاب في تعقباته وتعليقاته.
وكذلك تظهر أهمية هذا الكتاب في بعض المباحث التي أوردها المؤلف -رحمه الله- ولم يسبق إليها، وبخاصة ما كان منها متعلقا في علم الرجال، فله مباحث في علم الرجال وفي طبقات الحفاظ لا تجدها في كتاب من كتب مصطلح الحديث إلا في هذا الكتاب، ووجودها في هذا الكتاب يزداد أهمية لكونها صادرة عن إمام له عناية بعلم الرجال، وله عناية تامة في هذا؛ حتى شهد له الأئمة الحفاظ بذلك.
وهذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام الحافظ الذهبي -رحمه الله- لا بد أن نعرف هذه اللفظة أو هذه التسمية؛ لأن معرفة هذه التسمية فيها شحن للهمم في دراسة هذا الفن والاعتناء بهذا الكتاب.
: فـ " الموقظة " الهاء فيها للتأنيث، وموقظ: اسم فاعل من الإيقاظ وهو الانتباه، فالاستيقاظ والإيقاظ معناه الانتباه، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يلفت الانتباه -انتباه طالب العلم- إلى الاعتناء بهذا الفن، أو يلفت الانتباه إلى دراسة هذا الكتاب بخصوصه.
فهو إما لفت الانتباه لدراسة هذا الفن على وجه العموم، أو لفت الانتباه لدراسة هذا الكتاب على وجه الخصوص؛ لما حواه من المباحث المهمة التي قل -أو بعضها قل- أن يوجد إلا عند الإمام الذهبي، ولا شك أن هذه التسمية مطابقة للمسمى الذي اشتمل عليه هذا الكتاب.
وهذا الكتاب على اختصاره -كما تقدم- إلا أن فيه فوائد جليلة ينبغي للمسلم أن يعتني بها وأن يدرسها.
ثم بعد ذلك شرع المؤلف -رحمه الله تعالى- في بيان حد الحديث الصحيح، والمراد بالحديث الصحيح هنا – المعرف في هذا الحديث الصحيح لذاته -: لأنه عند الإطلاق -إذا أطلق الحديث- فإنه ينصرف إلى الحديث الصحيح، وهذا هو المعروف عند أهل العلم.
فيكون قوله: "الحديث الصحيح " أي: الحديث الصحيح لذاته؛ لأن العرف جار عند الإطلاق على صرف لفظ كلمة الصحيح إلى الصحيح لذاته، وكلمة الحديث هذه مبتدأ، والصحيح صفتها، والخبر هو الذي يأتي -إن شاء الله- وهو قوله: " ما دار على عدل".
ثم ذكر المؤلف في هذا التعريف خمسة شروط عند أهل الحديث، وهي ثلاثة شروط عند الفقهاء، والذي يعنينا في هذا الباب هو اصطلاح أهل الحديث؛ لأن القاعدة المتقررة: أن كل فن يرجع فيه إلى أهله.
ففي التفسير يرجع إلى أهل التفسير، وفي أصول الفقه يرجع إلى أهل الأصول، وفي الفقه يرجع إلى الفقهاء، وفي اصطلاح أهل الحديث يرجع إلى أهل الحديث، وهكذا غيرها من الفنون.
شروط الحديث الصحيح
وهذه الشروط الخمسة التي اشترطها أهل الحديث، منها ثلاثة إيجابية أو ثبوتية، يعني: يجب وجودها أو توافرها في الحديث؛ ليحكم له بالصحة، وشرطان منها سلبية أو منفية، يعني: لا بد من انتفاءها من الحديث؛ حتى يحكم له بالصحة.
فالشروط الإيجابية الثلاثة الأول:
الشرط الأول: عدالة الراوي، يعني: لا بد أن يكون كل راوٍ من رواة هذا الإسناد عدلا، وهو معنى قوله: " هو ما دار على عدله" لكن ما هو العدل ولماذا اشترطت العدالة؟
والعدل لو أخذنا بتعريفات بعض الفقهاء الذين كتبوا في علم الاصطلاح لأشكل علينا كثير من الرواة، ولكن المعتمد -إن شاء الله- في هذا هو ما ذكره ابن حبان في" صحيحه " في بيان حال العدل.
فذكر: " أن العدل هو من كان أكثر أحواله طاعة الله -عز وجل- " فمن كان أكثر أحواله هي طاعة الله -عز وجل- فهو العدل، وهو الذي يقبل حديثه.
لأننا لو اشترطنا أن يكون كل إنسان يروي لنا الحديث سالما من المعصية، سالما من صغائر الذنوب وكبائرها؛ لأدى ذلك إلى أنه لا يكون هناك راو عدل، أو يقل أو يندر وجود الراوي العدل.
لأن الشيطان له مداخل على بني آدم، وقل من يسلم، ولا معصوم من هذه إلا الأنبياء والمرسلون -صلى الله عليهم-.
إذن فصار العدل هو من كان أكثر أحوالهم طاعة الله -عز وجل-؛ لأننا نجد بعض الرواة وصفوا ببعض المعصية، ومع ذلك قبل حديثهم، ولم يطعن في عدالتهم.
فـ شريك " وصف بالتيه والكبر؛ ومع ذلك قبل جماعة أو كثيرون من العلماء حديثه، والذين لم يقبلوا حديثه لم يقبلوه من جهة العدالة وإنما من امتنعوا من قبوله من جهة الحفظ؛ لأنه كان قد تغير حفظه لما ولي القضاء.
فصار هناك علماء أخذت عليهم بعض المآخذ من جهة قيام المعصية بأحدهم؛ ومع ذلك لم يمنع ذلك من قبول رواياتهم، وهذا أيضا مثل: " عكرمة مولى ابن عباس " ومثل: " شهر بن حوشب " وغيرهم.
هؤلاء تكلم فيهم بعض العلماء، وذكرت عليهم بعض المعاصي التي تظن أنها معاص، أو يزعم أنها معاص، أو قد تكون معاصي حقيقة؛ ومع ذلك لم يطعن أحد في عدالتهم.
لأنه لو طعن في العدالة؛ لسقطت الرواية مطلقا، ولم يقبل حديثه أبدا لا في الاعتبار ولا في الشواهد ومتابعاتها.
فصارت العدالة على الحد الذي ذكره ابن حبان، أو العدل على الذي ذكره ابن حبان -رحمه الله- هو الموافق لصنيع علماء الحديث، ويزيل كثيرا من الإشكالات.
ولهذا؛ الإمام الذهبي في كتابه: " الميزان " في ترجمة: " علي بن المديني -رحمه الله- " ذكر أنه ليس من شرط الثقة أن يكون معصوما من الخطأ ولا الخطايا، يعني: من الخطأ في الرواية، ولا الخطايا من جهة الدين.
فصار المعتبر في العدل أن يكون أكثر أحواله طاعة الله -عز وجل-، إذا كان الغالب عليه الطاعة لله -عز وجل- قبل حديثه؛ وبهذا يسلم لنا كثير من الرواة، بل من المخرج لهم في الصحيحين، وهم ممن وصفوا بنوع من أنواع التلبس بالمعصية.
وهذه العدالة اشترطها العلماء من أجل أن يؤمن معها الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن المقصود من رواية الحديث وصوله إلينا كما قاله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا تحققنا من عدالة الشخص، وتحققنا من عدالته إذا كان أكثر أحواله طاعة الله -عز وجل-.
الشرط أو بهذا القيد -قيد العدالة- يخرج صنفان من الرواة: صنف تحقق عدم عدالته، تحققنا أنه ليس بعدل، وهؤلاء هم: الكذاب والمتهم بالكذب، وهو الذي يكذب في حديث الناس، لكن لم يثبت عليه أنه كذب في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو تقع له روايات كثيرة يغلب فيها المخالفة ويظن أنه افتعلها، لكن لا يجزم بذلك؛ فهذا متهم بالكذب، وقادح ذلك في العدالة.
وكذلك الذي يسرق الحديث؛ هذا أيضا خارج من حد العدالة، وكذلك المتهم في دينه بالفسق وغيره؛ فهذا خارج من العدالة.
فصار الخارج من الصنف الأول -الخارج من العدالة-: من تحققنا عدم عدالته، ثبت عندنا أنه ليس بعدل؛ فهذا يطرح حديثه، ولا يقبل لا في المتابعات ولا في الشواهد، ووجود حديثه كعدمه، لا أثر له في تقوية الأحاديث، كما أنه ليس صالحا في نفسه.
فهناك تحقق العدالة: هذا هو الذي يدخل في حد الحديث الصحيح، وتحقق عدم العدالة: يخرج به المرء عن أن يكون من رواة الحديث الصحيح.
وأما من لم تتحقق عدالته: لا ندري هل هو عدل أو غير عدل؟ فهو أيضا يخرج بهذا القيد، يخرج بقيد العدالة من لم نتحقق عدالته.
وهذا يشمل المبهم مثل: إذا قال عن رجل أو عن بعض الناس أو عن بعض أصحابنا أو نحو ذلك؛ هذا يسمى مبهما، أو كان مجهول العين: وهو -كما ذكره الخطيب- من روى عنه واحد، ولو يوثق هذا يسمى " مجهول العين ".
وكذلك يخرج به مجهول الحال: وهو من روى عنه اثنان فأكثر، ولكنه لم يذكر بجرح ولا تعديل، ويسمى " المستور ".
فهؤلاء الثلاثة يخرجون بقيد العدالة، لا لطعن في العدالة، ولكن لعدم تحقق العدالة، وسبق لنا أن ذكرنا أن شروط الصحيح، أو أن وجود العدالة شرط ثبوتي، يعني: لا بد من وجوده في الراوي؛ حتى يحكم لحديثه بالصحة.
فـ " قيد العدالة " أخرج صنفين: من تحققنا عدم عدالته، ومن لم نتحقق عدالته أو لم نتحقق أهليته للرواية أو لرواية الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا جاءنا مجهول أو مبهم: فإننا لا نحكم لحديثه بالصحة؛ لفقده شرطا من شروط الصحة وهي العدالة، ولكن المبهم والمستور ومجهول العين: هؤلاء حالهم أخف بكثير من الأولين أو من الصنف الأول؛ لأن الصنف الأول: وهو الكذاب والسارق والمتروك أو المتهم في دينه أو في حديثه، هذا لا يقبل حديثه مطلقا لا في الاعتبار ولا في الاحتجاج.
وأما بالنسبة لهذا الصنف الثاني للمجهول والمبهم: فهذا يقبل كثير من أهل العلم، أو بعض العلماء يقبلون حديثه في المتابعات، فإذا جاءه راو يتابعه على حديثه قبلوا حديثه، وإلا لم يقبلوا حديثه.
فكان الفرق بين من قدح في عدالته ومن لم نتحقق عدالته: أن الأول متروك أو ساقط الرواية مطلقا، وأما الثاني فيقبل إذا وجد له متابع عند طائفة من أهل العلم.
وهذه العدالة إذا قلنا: إنه لا بد من وجود العدل؛ لا بد لنا أن نعرف عبارات أهل العلم في تثبيت العدالة، كيف نعرف من كلام أهل العلم أن فلانا عدل ؟
وهذه من يعني من المسائل المهمة؛ لأن كونك تعرف أن العدل من كان أكثر أحواله طاعة الله، هذا أمر ميسور، لكن تطبيقه على كلام الأئمة المتكلمين في الرجال هو المهم.
فأحيانا يصف العلماء الراوي بأنه عدل، وهذا لا إشكال فيه لظهوره، هذا لا إشكال فيه؛ لأن كلامهم ظاهر وموافق للفظ المذكور في تعريف الحديث الصحيح، إذا قالوا: " فلان عدل " يعني: أنه ليس فيه ما يخل بدينه.
وتارة يعبرون عن العدالة بقولهم: " صدوق " إذا قالوا: " صدوق أو صالح " يعبر بها عن العدالة، فمن قيل فيه ذلك فقد ثبتت عدالته، والأول من كلمة " عدل " هذه ليست بكثيرة، والثانية هي التي " صدوق وصالح " هذه أكثر، هذه أكثر من الأولى.