لمعالي الشيخ محمد المبارك
لقد سبق للإسلام _ في فترة من الزمن امتدت عدة قرون ابتداء من ظهوره _ أن كون في مجموعة من الشعوب التي اتخذته دينا لها ونهجا لحياتها أمة واحدة هي (الأمة الإسلامية) ودولة واحدة هي (الدولة الإسلامية) وحضارة إسلامية مشتركة أسهمت فيها هذه الشعوب وثقافة إسلامية مشتركة كذلك.
ثم تطورت الحال بتأثير عوامل عديدة وانتهى الأمر بعد عدة قرون إلى تجزؤ الدولة إلى دول مع بقاء الشعوب في بداية الأمر متجمعة في أمة واحدة منسجمة رغم اختلاف الألسن والقوميات ثم أخذت هذه الشعوب في القرون الأخيرة تتجزأ أيضا بعض التجزؤ وجاء عهد الاستعمار في القرون الثلاثة الأخيرة ليكون عاملا قويا في إكمال عملية التجزئة والفصل. وانتهى الأمر إلى ما يسمى في العصر الحاضر (العالم الإسلامي).
و (العالم الإسلامي) هو مجموعة من الشعوب تدين بالإسلام تحكمها حكومات متعددة تختلف في نظمها التربوية والثقافية والتشريعية والاقتصادية وفي سياستها الداخلية والخارجية وارتباطاتها الاقتصادية.
ولكن ما بقي من رصيد الوحدة السابقة من رصيد الإسلام في عقيدته وتصوراته وفي شعائر عباداته المشتركة وما تبقى من نظمه التشريعية النافذة ومن أحكامه المؤثرة في العادات تحليلا وتحريما ومن المشاعر المشتركة بين المسلمين ومن مناهج التعليم الإسلامي الموروث المشتركة إن ما بقي من ذلك كله يمكن أن يكون نقطة انطلاق من جديد لتغيير الواقع في اتجاه الوحدة في صيغ جديدة تتناسب مع مجموع الأحوال والملابسات المعاصرة.
وإن طبيعة الإسلام نفسه وخصائصه وسابقته التاريخية في تكوين أمة واحدة واتجاه الشعوب في العصر الحاضر إلى تكوين كتل تتألف كل منها من مجموعة من الشعوب تلتقي على صعيد عقيدة مشتركة ونظم مشتركة واقتصاد موحد أو متناسق، إن هذه الأمور كلها تؤكد إمكان الانتقال بالعالم الإسلامي في صورته الحاضرة إلى أمة واحدة، ودولة واحدة أو متحدة أو اتحادية وثقافة مشتركة ذات لغة مشتركة، وحضارة مشتركة.
نحن إذن أمام واقع وهدف نريد الوصول إليه ولابد من البحث عن الطريق الموصل من الواقع إلى الهدف، وبحثنا يتناول هذه العناصر الثلاثة.
الهدف:
يختلف الإسلام عن المسيحية والبوذية وأكثر الأديان بأنه يغطي بتوجيهاته وتعاليمه جميع جوانب الحياة ويستغرقها سواء أكان ذلك عن طريق التوجيه وتحديد الأهداف أم عن طريق التحديد. فهو يحدد المعالم الأساسية للتصورات الفكرية وقواعد السلوك العملي الأخلاقي وينظم العلاقات الاجتماعية في شتى المجالات (الأسرة، المال، الدولة..) ولا تشغل العبادات وشعائرها والإيمان بالغيبيات إلا جزءا منه فحسب. وليست كذلك أكثر الديانات ويختلف عن اليهودية التي تشتمل على بعض التشريع بأنه شامل لتنظيم جميع جوانب التشريع من جهة وأنه قابل للتطبيق مع تغير ظروف الحياة لما يتصف به من السعة والمرونة.
وبناء على هذا فلا يمكن مقارنة الإسلام بأي دين من الأديان من جهة قدرته على تكوين أمة وجمع مختلف الشعوب في إطارها وقدرته على تكييف ظروف الحياة وتطوراتها حسب مقاييسه وقواعده.
يمكن مقارنة الإسلام _من هذه الناحية_ بالعقائديات المعاصرة التي تشمل التصورات العامة للوجود _وتكون فلسفتها الأساسية_ ومفاهيمها في الأخلاق ومقاييسها ونظمها التشريعية وبالتالي تستطيع الجمع بين شعوب مختلفة، وذلك باشتراكها في هذه الجوانب.
ويختلف الإسلام عنها بأنه يضيف إلى ذلك ما يسميه أصحاب هذه العقائديات بالدين أي الإيمان بحقائق غيبية وإقامة شعائر العبادات.
فالإسلام إذن هو من نوع العقائد التي يمكنها أن توحد الشعوب وأن توجد قاعدة صلبة للقاء بل هو من أقدرها على ذلك.
ولا شك أن الإسلام نفسه كما تدل نصوصه الأصلية من القرآن والسنة يهدف إلى جعل الإنسانية كلها أمة واحدة في ظل عقيدته وأحكامه تتضامن وتتكافل وتتعاون على أساسه في مجال الشعور بالأخوة وفي مجال التعاون الحضاري والتناصر والتكافل المالي.
ولا يمكن ذلك إلا بالنسبة لمن يؤمن به ويذعن لأحكامه وتبقى الدائرة مفتوحة لمن يريد أن يدخل فيها طواعية.
واقع العالم الإسلامي:
أطلق لفظ العالم الإسلامي في العصر الحديث بدلاً من تعبير (الأمة الإسلامية) الذي كان يستعمله المسلمون والغالب على الظن أن هذا التعبير استعمله أولاً غير المسلمين من أهل أوربا وأمريكا بالإنكليزية (Muslim word)وبالفرنسية (le monde muslman).
وهو يشمل الشعوب المسلمة أو التي أكثريتها مسلمة سواء أكانت حكومتها إسلامية أم كانت غير إسلامية، ويضاف إليها أو يلحق بها الأقليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية.
وسنذكر فيما يلي جوانب الاختلاف والانقسام تمهيدا للبحث عن طرق إزالة الاختلاف والانقسام والعودة إلى الوحدة والانسجام الاجتماعي:
1 _ تعدد الدول:
إن انقسام الدول الإسلامية ظاهرة قديمة ولكن حكام الدول الإسلامية كانوا يشعرون كما يشعر المسلمون جميعا يومئذ أنهم يقتسمون أرضا واحدة ومجتمعا واحدا وكان الفرد المسلم لا يشعر بالانفصال عن المسلمين الذين هم تحت حكم حاكم آخر فالشعور بوحدة المسلمين أو المجتمع كان واضحا وقويا حتى أن الانتقال من دولة إلى دولة كان أمرا عاديا وميسورا وكذلك تغيير محل الإقامة من دولة إلى دولة وكان المسلم ينتقل إلى بلد آخر وإلى سلطة حاكم آخر دون أن ينتقص أي حق من حقوقه، فيمكن أن يتولى فيها أي ولاية من الولايات كالقضاء والوزارة وغيرها كما حصل لابن خلدون وابن بطوطة وعدد كبير من العلماء الذين تولوا القضاء في الشام ومصر أو في مصر والمغرب أو غيرها.
أما الانقسام الذي حصل في القرن الأخير ولاسيما في عهد الاستعمار وبعد الاستقلال فهو انقسام إلى دول تفصلها حدود حاجزة وتكون مجتمعات أخذ بعضها يتباعد عن بعض، وتكونت لها عصبيات قومية أو إقليمية انعكست آثارها في نفوس الشعوب وتجسدت في كيانات وطنية وقومية متنافسة تنافس القبائل قديما بل متصارعة ومتعادية أحيانا.
وبني على هذا الأساس المناهج الدراسية وخاصة في التاريخ والجغرافيا وغذيت هذه الروح المبنية على هذه العصبيات الإقليمية أو القومية والوطنيات المحدودة الخاصة حتى في الأدب والشعر والأناشيد (الوطنية) فلتركيا نشيد ولمصر نشيد وللعراق نشيد.. الخ. واستمر الحكام الذين حكموا بعد التحرر من الاستعمار كالحكام الذين سبقوهم أو الذين لم تستعمر أرضهم في هذا الاتجاه بسبب نشوئهم في هذه الأجواء من جهة وبسبب حرصهم على مناصبهم من جهة أخرى.
2 _ اختلاف نظم الدول القائمة في العالم الإسلامي:
أ _ نظم التربية والتعليم:
بعد أن أدخل الاستعمار _ وهو حكم غير المسلمين للبلاد الإسلامية _ مناهج للتعليم غير المناهج الإسلامية المتوارثة وبنيت هذه المناهج على الفكر الغربي من حيث الأساس، اختلت الوحدة الثقافية والفكرية في البلاد الإسلامية. فوجد أولاً نوعان من الثقافة والتفكير، نوع بني على المناهج الإسلامية الموروثة القديمة ونوع بني على المناهج الأجنبية الوافدة أو الغازية.
ووجد اختلاف آخر نشأ عن تعدد الدول غير المسلمة التي غزت بلاد المسلمين وهي نفسها مختلفة المناهج وإن اشتركت في أصولها فثمة نظام إنكليزي ونظام فرنسي وغيرهما. ثم ظهر نظام آخر كان له تأثير أيضا وهو النظام الماركسي الذي تأثرت به بعض البلاد الإسلامية بتأثير الدول الشيوعية ودعايتها ونفوذها وهكذا تكون من مجموع ذلك تفكير متعدد مختلف الاتجاهات وليس هذا الاختلاف بين بلد وبلد فحسب بل في البلد الواحد نفسه. وبذلك فقدت أو انتقصت الوحدة الفكرية والثقافية التي كانت ماثلة، في بلاد المسلمين كلها.
ب _ التشريع:
غزا الغرب غير المسلمين البلاد الإسلامية قبل استعمار البلاد الإسلامية فأخذت القانون الجنائي ثم القانون التجاري ثم القانون المدني وأخيراً قانون الأحوال الشخصية. ولكل من هذه القوانين تأثيرها في المجتمع في توجيه حياته الأخلاقية عن طريق التشريع الجنائي _ والاقتصادية عن طريق القانون التجاري والمدني وحياة الأسرة المسلمة عن طريق قوانين الأحوال الشخصية.
ونشأ عن ذلك:
الاختلاف بين التشريع الإسلامي الذي كان سائدا والتشريع الغربي الغازي. الاختلاف بين التشريعات الأجنبية نفسها لتعدد مصادرها.
التعارض بين بنية المجتمع الإسلامي القديمة والتشريع الجديد الأجنبي فيها وأخيرا فقدان الوحدة التشريعية في البلاد الإسلامية واختلاف تكوين البناء الاجتماعي وإقصاء التشريع الإسلامي عن المجتمعات الإسلامية.
ج _ الاقتصاد والنظم الاقتصادية:
إن الاختلاف في النظم الاقتصادية والانقسام والتوزيع على دورات أو شبكات اقتصادية من جهة الارتباط والتعامل الخارجي _ ظاهرتان جديدتان في العالم الإسلامي لم تكونا موجودتين حتى في عصر الانحطاط إذ كان العالم الإسلامي مترابطا اقتصاديا وكان النظام السائد فيه واحدا.
نشأ هذا الاختلاف والانقسام بتأثير الاستعمار وتعدد دوله واختلاف نظمه واختلاف الدول أو البلاد الإسلامية في اقتباس النظم الاقتصادية من رأسمالية قديمة إلى رأسمالية حديثة إلى اشتراكية إلى اشتراكية ماركسية وقد نشأ عن الاختلاف في هذا الميدان نتائج وآثار متعددة منها: اختلاف في تركيب المجتمع وفي آلية الحركة الاقتصادية أو طرائق التنمية وفي كل ما يتأثر بالاقتصاد وأسلوبه في الداخل.
اختلاف في الارتباطات الاقتصادية الخارجية في الصادرات والواردات والأساس النقدي ومراكز الإيداع. فكل بلد إسلامي مرتبط بشبكة اقتصادية خارجية تختلف عن البلدان الإسلامية الأخرى وذلك بسبب تضارب المصالح والتنافس وقد يسبب التعارض في المصالح الاقتصادية وذلك مما يجر إلى اختلاف المواقف السياسية الخارجية وإلى وجود البلاد الإسلامية في جبهات مختلفة ومتصارعة وكثيراً ما سبب ذلك السير في سياسة خارجية تخالف الإسلام بل التنكر لبعض القضايا الإسلامية الدولية.
د _ السياسة الداخلية والخارجية:
من الطبيعي أن يرتبط الاختلاف في السياسة الداخلية بالاختلافات السابقة وخاصة في التربية والثقافة وفي التشريع وفي المفاهيم العقائدية والمعايير الأخلاقية وهي التي تحدد الحقوق والواجبات ومدى الحريات وأنواعها ولا شك كذلك أن حرص الحكام في كل بلد على الاستمرار في الحكم وبقاء البلد الذي يحكمونه مستقلا عن غيره من البلدان الإسلامية هو دافع إلى وضع قوانين ونظم وإجراءات في السياسة الداخلية تقوي روح الإقليمية والانعزالية في الشعب حتى تتغلب على شعوره بواجب الاتحاد أو الوحدة مع سائر البلدان الإسلامية، ويضاف إلى ذلك اعتقاده أن في ذلك مصلحة له لئلا يقاسمه أبناء البلدان الأخرى المنافع والمكاسب في زعمه غافلا عما تجلبه الوحدة وسعة الرقعة من القوة ومن المنافع والمصالح بالإضافة إلى كونها واجبا إسلاميا بصرف النظر عن مكاسبها.
وبذلك يصبح المسلم في بلد إسلامي ليس بلده وفي دولة غير دولته ليس له من الحقوق المدنية كالعمل والإقامة والتملك والتوظف وغيرها من الحقوق إلا ما لسائر الأجانب من غير المسلمين وهذه ظاهرة لم يسبق لها نظير في تاريخ الإسلام ولم تحدث إلا في العصر الحديث.
أما السياسة الخارجية فهي كذلك مختلفة بسبب اختلاف العوامل التي ذكرناها من التربية وما تنشره من أفكار وعقائد ومن النظم الاقتصادية والمصالح الاقتصادية فهذان العاملان أعني التأثر بالتيارات الخارجية كالشيوعية والليبرالية. والديمقراطية والقومية وغيرها، وارتباط المصالح الاقتصادية بدول وبلدان غير إسلامية أدت ولا تزال تؤدي حتما إلى اختلاف كبير في السياسة الخارجية وانقسام بين حكومات البلاد الإسلامية في هذا المجال. وإن من أساليب المعارضة لوحدة الشعوب الإسلامية واتحاد الدول الإسلامية صرفها إلى تكتلات أخرى تختلط فيه دول الشعوب الإسلامية وتتوحد مع دول غير إسلامية.
3 _ تعدد المذاهب والاتجاهات:
إن الوحدة بين المسلمين في الماضي والحاضر لم يكن ليؤثر فيها ما بينهم من اختلاف مذهبي وفيما يلي تلخيص يعطي صورة واضحة ويؤيد ما قلناه:
أ _ أن المذهب السني هو مذهب الأكثرية العظمى للمسلمين في العالم والمذهب الذي يليه في الأهمية من حيث العدد هو المذهب الشيعي الإمامي وهو مذهب أكثرية الشعب الإيراني وفريق من سكان القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلاديش) والمهاجرين منهم إلى جنوب أفريقيا ونصف سكان العراق وأقليات أخرى في بلدان متفرقة.
إن وجود هذين المذهبين ويضاف إليهما المذهب الإباضي في عمان والجزائر وزنجبار والمذهب الزيدي في اليمن، لم يكن ليخلق أي مشكلة أمام الوحدة بين المسلمين. فالتنسيق بين المذهب السني والمذهب الشيعي وهما الأكثر تباعدا بين هذه المذاهب التي ذكرناها أمر ميسور وممكن لعظم الجانب المشترك بينهما وضآلة جانب الاختلاف.
وأما المذاهب التي أعلنت انشقاقها وانفصالها عن الإسلام قديما أو حديثا كالدرزية والبهائية، أو التي أعلن المسلمون انفصالها عن الإسلام كالقاديانية فهي لا توجد مشكلة لقلة عدد أصحابها ولعدم معارضتها للوحدة بين المسلمين.
ب _ المذاهب الحديثة العقائدية والاجتماعية والسياسية:
إن من أبرز العوامل المعارضة للوحدة في داخل كل بلد إسلامي وبين البلدان الإسلامية ظهور تيارات فكرية ومذاهب عقائدية حديثة مستمدة من الغرب تولدت بسبب الاستعمار والغزو الأجنبي الفكري. وهذه المذاهب إما معارضة للإسلام معارضة أساسية وكلية وإما عاملة لحصر الإسلام في نطاق العبادات والعقيدة الشخصية.
بعض هذه المذاهب يتخذ لنفسه صفة عقيدة شاملة (إيديولوجية) كالماركسية أو الشيوعية والقومية لدى فريق من القومين (في مختلف الشعوب الإسلامية) وبعضها يتخذ لنفسه صفة جانبية سياسية كالوطنية والقومية عند فريق آخر من القوميين أو اقتصادية كالاشتراكية (غير الماركسية).
إن هذه التيارات السياسية والاجتماعية والعقائدية راجت وانتشرت في المجتمعات الإسلامية وكان لها آثار ونتائج خطيرة وعميقة في حاضر العالم الإسلامي ومستقبلة وفيما يلي أهم هذه النتائج:
أولاً: أن هذه المذاهب والتيارات تأثر بها فريق من الجيل الماضي والحاضر من الشعب في كل بلد إسلامي وكونت على أساسها أحزاب سياسية وأصبحت في بعض البلدان مذهب الدولة الرسمي والفعلي ووصل المتمذهبون بها إلى مراكز الحكم والقيادة.
ثانياً: اختلفت البلاد الإسلامية في الأخذ بهذه المذاهب فاتخذت بعضها الاشتراكية وبعضها الشيوعية وبعضها القومية وبعضها العلمانية وبعضها الإسلام صراحة أو ضمنا فكان سببا في الاختلاف العقائدي للدول الإسلامية.
ثالثاً: وقفت هذه المذاهب بعضها موقف المعارضة للإسلام كالشيوعية وبعضها موقف الحد من الإسلام وحصره في نطاق محدود ضيق كالقومية والديمقراطية العلمانية، وحتى الوطنية. وتكاد تكون كلها معارضة للإسلام في جانبه السياسي وباعتباره عامل وحدة بين المسلمين تشريعا وثقافة وحكما فهي على أحسن الأحوال تعتبره (تراثا) قوميا أو إنسانيا وتحصره في نطاق العبادات والمواسم و (التقاليد).
رابعاً: تتعاطف كل دولة إسلامية مع الدول التي تدين بمذهبها ولو كانت غير مسلمة وتتنكر للدول التي تدين بمذهب مغاير لمذهبها ولو كان شعبها مسلما أو كانت هي مسلمة ويظهر ذلك في التقاء الأحزاب الاشتراكية (غير الشيوعية) أو الأحزاب الشيوعية في مؤتمرات عمل أو في زيارات ودية. وكذلك في لقاء الحكومات التي تدين بمذهب مشترك من هذه المذاهب. ولا شك أن في ذلك طعنة للإسلام يراد بها القضاء عليه وتفتيتا للوحدة بين المسلمين سواء في ذلك وحدة الشعوب أم وحدة الدول وصدا عن السير في طريق الوصول إليها.
خامساً: أن هذه المذاهب والتيارات تتعارض تعارضا كليا أو جزئيا مع الإسلام ويكون المنتمون إليها في داخل الشعوب الإسلامية تيارات معارضة للكيان الإسلامي ولجماهير المسلمين ولكل حركة إسلامية، ويوجدون بذلك تصدعا في الوحدة والانسجام المتحققين بين الشعوب المسلمة وفي داخل كل شعب منها.
سادساً: لم يقتصر التأثر بهذه التيارات المستوردة والعقائديات المعارضة للإسلام على فئة خاصة من حكام ومثقفين وقادة أحزاب بل تأثر بها فريق من الشعب في كل بلد وأن تكن الجمهرة الكبرى من الشعب في كل بلد باقية على موالاة الإسلام بحسب فهمها له. وبذلك حصل شيء من التصدع الداخلي الذي أخل بوحدة الشعب في كل بلد ووحدة الشعوب الإسلامية كذلك.
_ الأقليات الدينية والقومية:
حينما كان الإسلام هو المهيمن على الحكم والعلاقات الاجتماعية قبل العصر الأخير كانت الأقليات الدينية غير الإسلامية والمنشقة عن جمهرة المسلمين بمذهب خاص انفصلت به عن الجماعة قد كيفت وضعها الخاص تكيفا لا يدع مجالا لمشكلة اجتماعية ولا لشكوى إلا كانت عارضة فلما ظهرت التيارات المذهبية الحديثة وجدت هذه الأقليات طريقا جديدا لتغير وضعها والمشاركة مع المنتمين إلى هذه التيارات من المسلمين أنفسهم لتحقيق رغبة نفسية لديها وهي إزالة حكم الإسلام وإقصاؤه عن مجال الحكم والتشريع متذرعة بالفكرة الوطنية الديمقراطية العلمانية أو القومية أو الاشتراكية، فأوجد هذا الوضع مضاعفات وتعقيدات ومنازعات مؤسفة في عدد من البلاد الإسلامية.
أما الأقليات القومية فكانت منسجمة مع القومية التي تعيش معها حينما كان الإسلام أساسا للحكم والعلاقات الاجتماعية وإنما برزت المشكلة حتى تكونت الدولة الحديثة _ في البلاد الإسلامية_ على أساس قومي فكان رد الفعل الطبيعي مطالبة هذه الأقليات بحقوقها القومية من تكوين دولة أو استقلال ذاتي ولغة خاصة ومشاركة في الحكم وما إلى ذلك.
بعد استعراضنا لواقع العالم الإسلامي المعاصر وما ظهر من ظاهرات انتقصت من الوحدة بين الشعوب الإسلامية وعوامل أثرت فيها وأحدثت فيها انقساما وتصدعا وتشبعا، لابد لنا من إثبات ملاحظة هامة. ذلك أنه بالرغم من العوامل التي انتقصت الوحدة وأضعفتها فإنه لا تزال كثير من جوانب الاشتراك وأسس الوحدة قائمة في كل شعب وبين الشعوب الإسلامية.
لا يزال الشعور الشعبي الإسلامي قويا عميق الجذور وهو شعور بالانتماء إلى الإسلام والإيمان به وشعور بالوحدة بين المسلمين ولا يزال هذا الشعور أقوى من أي شعور آخر يقابله مما تولد من التيارات المذهبية الحديثة.
ولا تزال وحدة المظاهر الدينية في العبادات وشعائرها والأعياد والمواسم والعادات ذات أثر كبير في النفوس ولا تقل عن ذلك ذكرى ماضي الإسلام وتاريخه في الوعي الشعبي.
ونضيف إلى هذه الجوانب ظاهرة جديدة آخذة بالقوة والاتساع والعمق وهي ظاهرة العودة إلى الإسلام دراسة وإطلاعا وإحياء لتراثه ومصادرة والتزاما لأحكامه ومطالبة بتنفيذه في مجال التشريع والاقتصاد والحكم حتى أن الحكام أخذوا يشعرون بالضغط الشعبي القوي للعودة إلى الإسلام مما يضطرهم للمسايرة أو المجاملة.
إتماما للصورة التي رسمناها للعالم الإسلامي والعوامل المؤثرة في وحدته وانقسامه، وانسجامه أو تنافره، يجب أن نضيف أن هذه العوامل لا تتفاعل مستقلة بمعزل عن المؤثرات الخارجية. فإن القوى الخارجية والدول غير الإسلامية ذات مصلحة في هذا الموضوع ولها فيه اهتمام بالغ. ولذلك فهي تحاول التأثير في كل واحد من هذه العوامل لتقويته أو إضعافه حسب مخططها.
إن للدول الأجنبية مصلحة في بقاء الدول الإسلامية التي تتعامل معها اقتصاديا وتسير في فلكها سياسيا مستمرة، وقد كان ذلك يجري في العصر الماضي بقوة الجيش والسلاح ولكنه أصبح يتم في العصر الحاضر بطريقة أخرى سليمة وهي التوافق في العقيدة والفكرة والنظم. ولذلك فهي تحرص على الدعاية لمذهبها العقائدي وثقافتها ونظمها التربوية حرصها على ترويج بضاعتها وصناعتها وخبرتها الفنية.
ومن هنا يأتي إمداد المذاهب العقائدية الحديثة والتعاون مع الحكام السائرين في الاتجاه المناسب لهذه المصالح والعقائد والعاملين على ترويجها وهذه هي الطريقة السليمة غير المباشرة التي تنتج إقصاء الإسلام وإبعاد الوحدة الإسلامية والإبقاء على هذا النوع من الارتباط.
ليست الدول الأجنبية غير الإسلامية وحدها صاحبة المصلحة في ذلك بل يضاف إليها قوى خارجية وعالمية أخرى كالشركات الكبرى والصهيونية العالمية وجميع مراكز السلطات العليا للأديان المنافسة للإسلام.
ولهذه الأسباب كانت الدعوة إلى أي عقائدي أو اجتماعي سياسي معارض أو منافس للإسلام كالقومية والشيوعية والاشتراكية _كمذهب شامل مرتبطة ارتباطا قويا بالدول الأجنبية والقوى العالمية تشجعها وتمدها وتدعمها وتستميت في هذا السبيل لإقصاء ظهور الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية والوحدة الإسلامية. كما أنها تعادي وتقاتل كل حركة أو دعوة هدفها بعث الإسلام وإحياؤه وتوحيد الشعوب على أساسه وتبذل كل ما في وسعها لقتلها وإبادتها وتدفع جميع المؤتمرين بأمرها والمتعاونين معها من حكام ومثقفين وكتاب للقضاء عليها. وقد تعمل على تشجيع الطعن فيها وتكوين حركات مريضة باسم الإسلام لصرف المسلمين عن الإسلام الحقيقي الذي يهدف إلى وحدة المسلمين والقيام على أساس الإسلام.
طريقة الوحدة وإزالة العقبات:
إن عوامل تغيير واقع العالم الإسلامي التي يمكن أن تنقله من الاختلاف والانقسام إلى الوحدة والانسجام بعضها بيد الحكومات وبعضها مشاع ومتاح للشعوب نفسها وبالتالي يمكن أن يسعى في تحريكه الأفراد والهيئات والجماعات فتغير نظم التربية والتعليم ونظم التشريع والاقتصاد وخطط السياسة الداخلية والخارجية هي بيد الحكومات. فما السبيل لجعل هذه الحكومات تتحرك وتعمل في هذا الاتجاه؟
لا شك أن البداية والانطلاق إذا حصل منها أو من بعضها فهو المطلوب وإن لم يحصل فلابد من الرجوع إلى وسيلة لتحريكها ودفعها.
إن الوسيلة لتحريكها ودفعها هي مطالبة الأفراد والجماعات والهيئات الإسلامية لها وتوليد الرأي العام الإسلامي الشعبي في جميع البلدان الإسلامية للضغط على الحكومات وإنما يقوم بتوليد الرأي العام الشعبي وتغذية الوعي العام المؤمن بالفكرة المتصفة بالوعي والعاملة المجاهدة في سبيلها عن فقه وبصيرة؟
ولهذا نكتفي ببيان العوامل المؤثرة تاركين تحديد الجهة التي ستباشرها.
1 _ توليد رأي إسلامي عام قوامه:
1 _ الانتماء المبدئي الأعلى والأهم هو الانتماء إلى الإسلام: دينا ومبدأ ونظاما.
2 _ الانتماء الاجتماعي الأعلى والأهم هو الانتماء إلى الأمة الإسلامية أو جماعة المسلمين والوطن الإسلامي وأن من المهم جدا وضوح هاتين الفكرتين وقوتهما وقوة عرضهما وحسن التعبير عنهما بالطرق الناجحة وبشتى الأساليب التي تؤكدهما وترسخ جذورهما وتكوين وعي شعبي قوي وتغذيته باستمرار حتى يكون قوة اجتماعية ذات تأثير وضغط تجاه الحكومات والهيئات والأفراد ولتوليد هذا الرأي العام الشعبي القوي الواعي وسائل كثيرة نقترح منها ما يلي:
أ _ نشر البحوث الموضحة والعارضة للإسلام بوصفه مبدأ كليا ونظاما عقائديا شاملا (ودينا كاملا). والتذكير بهذه الفكرة الأساسية حتى في الأبحاث الجزئية والخاصة وكذلك الإلحاح في عرض فكرة (الأمة الإسلامية) وما يتفرع عنها من دار الإسلام أو الوطن الإسلامي ومنطقة الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وما إلى ذلك.
ويكون هذا النشر في كتب ومقالات ومحاضرات وندوات ومؤتمرات مع العناية بتحديد مواصفات الكتاب الإسلامي الجيد والعناية بإبراز الكتب الجيدة والتنويه بها حتى لا تضيع في خضم الكتب العادية والقليلة الجدوى.
ب _ تدريس الثقافة الإسلامية المكونة من المحورين الأساسيين الإسلام والأمة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي في التعليم الثانوي والجامعي في جميع فروعه والعناية بإبراز فكرة (العالم الإسلامي) بوصفه عالما متميزا مشتركا بين الشعوب المسلمة وتدريس جغرافيته في الجغرافية واقتصادياته في الاقتصاد والعمل على تعميم ذلك في البلدان الإسلامية في جميع الجامعات والمدارس ولاسيما أن عدداً من الجامعات في السعودية والسودان قد أقرت ذلك.
ج _ توجيه طلاب الدراسات العليا إلى الموضوعات التي تخدم مبدأ الوحدة وتوضحه والتي تفصل جوانبه وتعمق أفكاره.
2 _ الدعوة إلى مؤتمرات للدول الإسلامية واقتراح ذلك والمطالبة به والسعي لتحقيقه ولاسيما في المجالات التالية:
أ _ التربية والتعليم (في جميع المراحل) التنسيق بين المناهج، توحيد مناهج بعض المواد، توحيد أنظمة التعليم، توحيد مادة الثقافة الإسلامية، وإقرار تدريسها، وسائل تعميم اللغة العربية بوصفها اللغة المشتركة للثقافة الإسلامية ولغة القرآن.
ب _ التشريع: التنسيق بين القوانين وتوحيد ما يمكن توحيده (للقانون المدني والتجاري والجنائي والأحوال الشخصية وغيرها).
ج _ الاقتصاد:
تنسيق نظم وقوانين الاقتصاد والتجارة والجمارك وتوحيد ما يمكن توحيده منها، التنسيق بين اقتصاديات البلدان الإسلامية لإيجاد سوق مشتركة واقتصاد متكامل.
د _ السياسة الداخلية:
لتسهيل الانتقال بين البلدان الإسلامية وإعطاء الأولوية في العمل والتعاقد والإقامة.
هـ _ السياسة الخارجية: التنسيق الكامل.
و _ الدفاع: توحيد المصطلحات والشعارات وأنواع السلاح والتخطيط للتكامل في صنع السلاح.
ز _ تكوين منظمة للدول الإسلامية تمهيدا لإقامة اتحاد (confederation)ثم دولة متحدة federation))
3 _ التخطيط للتحرر من التيارات المذهبية والاجتماعية السياسية المعارضة أو المخالفة للإسلام ويمكن اقتراح ما يأتي:
أ _ احتواء ما يمكن احتواءه من المذاهب العقائدية الأخرى. مثال ذلك بالنسبة للدعوة القومية: إظهار دور كل شعب من الشعوب الإسلامية في التاريخ والحضارة الإسلاميين ليكون في ذلك إشباع للعواطف القومية وتحويلها نحو الإسلام _ وإبراز مبدأ العدالة في الإسلام في مختلف المجالات ولاسيما التشريع لتحويل الميول الاشتراكية ذات البواعث السليمة إلى الوجهة الإسلامية ثم صياغتها صياغة إسلامية متميزة عن المذاهب الاشتراكية المختلفة.
ب _ وأما الجوانب التي تعارض الإسلام من هذه المذاهب فيجب معارضتها بإبراز المبادئ والأفكار الإسلامية المقابلة لها بطريقة إيجابية قوية كبيان مبدأ الإسلام في التعاون بين القوميات على أسس إنسانية وفي اتجاه أهداف إنسانية في مقابل الاستعلاء القومي المؤدي إلى التنافر والصراع والحرب والاستعمار ويمكن للهيئات الفكرية المخصصة وللمفكرين المسلمين القيام بهذه العمليات والتعاون على ذلك والتخطيط وتبادل الرأي فيه.
ج _ التخفيف من حدة الخلافات بين الطوائف أو الفرق المسلمة وتطويقها تمهيدا لإزالتها أولا لاعتبارها غير ذات شأن في الوحدة وذلك عن طريق أبحاث هادفة ومثال ذلك قضية الخلافة والإمامة بين الشيعة والسنة وما يتفرع عنها. والعمل كذلك لإيجاد صعيد مشترك سليم الأسس لالتقاء الاتجاهات المختلفة بين المسلمين بوجه عام وفي مقابل ذلك إبراز الأفكار المخالفة لأسس الإسلام والتي تقوم بها فرق تنتمي في أصلها التاريخي إلى الإسلام. ولكنها انفصلت عنه بسببها لئلا تكون المجاملة على حساب الإسلام مع تذكير المنتمين إلى هذه الفرق بالأصل الذي ابتعدوا عنه وخرجوا عليه. كما هي الحال في الدروز والبهائية والقاديانية وأمثالهم.
إن مهمة الجمعيات والهيئات الإسلامية والمفكرين المسلمين والمجلات التي تصدر عنهم كبيرة جدا. إذ عليهم الدعوة إلى الوحدة وتوضيحها وبسط أفكارها وتغذية الشعوب بها. والتذكير بها ومطالبة الحكومات بتحقيقها وعقد المؤتمرات لكل ما يخدمها ويقويها ويؤدي إليها، وإشاعة الأفكار التي توضحها وتصحيح الأخطاء السابقة في شأنها ونشر التعابير والشعارات التي تدل عليها والتي ترد ما يعارضها من التعابير والشعارات التي روجتها وأشاعتها المبادئ والمذاهب المعارضة للإسلام تزينا لها.
أعتقد أن عوامل التغيير سائرة في اتجاه الوحدة بين المسلمين أفرادا وشعوبا وحكومات على ما في الطريق من معوقات فعلى من تقع عليهم التبعة من أولي القوة العلمية والسياسية أو المالية أو الخبرة أن يكونوا عناصر إيجابية للإسراع وتسديد الخطى نحو الهدف وإزالة المعوقات والبناء بتقديم ما لديهم من إمكانيات وقدرة، والله سبحانه هو الموفق والمعين والهادي إلى سبيل الرشاد.
المهم مشكورة